بيان في نصرة أهل السنة والجماعة،
قال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء: “هذه المسائل التي تلقاها الإمامان الأشعري والماتريدي هي أصول الأئمة رحمهم الله تعالى، فالأشعري بنى كتبه على مسائل من مذهب الإمامين مالك والشافعي أخذ ذلك بوسائط فأيّدها وهذبها، والماتريدي كذلك أخذها من نصوص الإمام أبي حنيفة”.
وللإمام أبي حنيفة رضي الله عنه: الفقه الأكبر والرسالة والفقه الأبسط والعالم والمتعلّم والوصية. والإمام أبو حنيفة وصاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن أول من تكلّم في أصول الدين بالتوسّع وأتقنها بقواطع البراهين على رأس المائة الأولى، وقد ذكر الأستاذ عبد القاهر البغدادي أن أول متكلمي أهل السنّة من الفقهاء أبو حنيفة والشافعي، ألّف الأول منهما في ذلك الفقه الأكبر والرسالة في نصرة أهل السنّة إلى مقاتل بن سليمان صاحب التفسير وكان مجسّمًا، وناظر فرقة الخوارج والروافض والقدرية والدهرية وكانت دعاتهم بالبصرة فسافر إليها نيفًا وعشرين مرةً، وفضّهم بالأدلة الباهرة، وبلغ في الكلام (أي علم التوحيد) إلى أنه كان المشار إليه بين الأنام، واقتدى به تلامذته الأعلام.
وفي مناقب الكردري عن خالد بن زيد العمري أن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمد وزفر وحماد بن أبي حنيفة قد خَصَمُوا بالكلام الناس أي ألزموا المخالفين، وهم أئمة العلم. وعن الإمام أبي عبد الله الصيمري أن الإمام أبا حنيفة كان متكلم هذه الأمة في زمانه، وفقيههم في الحلال والحرام.
وقال الفقيه الأصولي الزركشي في تشنيف المسامع: “إن الأئمة انتدبوا للرد على أهل البدع والضلال، وقد صنّف الشافعيّ كتاب القياس ردّ فيه على من قال بقدم العالم (أي أزلية العالم وهو كفر) من الملحدين، وكتاب الرد على البراهمة وغير ذلك، وأبو حنيفة كتاب الفقه الأكبر وكتاب العالم والمتعلّم رد فيه على المخالفين، وكذلك مالك سئل عن مسائل هذا العلم فأجاب عنها بالطريق القويم، وكذلك الإمام أحمد”.
وصنّف سيد المحدّثين في زمانه محمّد بن إسماعيل البخاري كتاب خلق أفعال العباد، وصنّف المحدث نعيم ابن حماد الخزاعي كتابًا في الردّ على الجهمية وغيرهم، وصنّف المحدّث محمّد بن أسلم الطوسي وهو من أقران الإمام أحمد في الردّ على الجهمية، وقد ردّ على المعتزلة فأجاد بالتأليف ثلاثة من علماء السنّة من أقران الإمام أحمد: الحارث المحاسبي، والحسين الكرابيسي، وعبد الله بن سعيد بن كُلاّب – المتوفى بعد الأربعين ومائتين بقليل – ويمتاز الأول بإمامته أيضًا في التصوف.
وصنّف إماما أهل السنّة والجماعة في عصرهما وبعده إلى يومنا هذا أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي المصنفات العظيمة في الردّ على طوائف المبتدعة والمخالفين للإسلام مملوءة بحجج المنقول والمعقول، وامتاز الأول بمناظراته العديدة للمعتزلة بالبصرة التي فلَّ بها حَدَّهم وقلل عددهم. وكانت وفاة الأشعري في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة للهجرة، وتوفي الشيخ أبو منصور بعد وفاة الأشعري بقليل.
وصنّف أتباعهما من بعدهما المئات من المجلدات في الردّ على المبتدعة والمخالفين للإسلام بالحجج الدامغة الكثيرة والمناظرات العديدة قطعوا بها المعتزلة الذين هم أفحل طوائف المبتدعة، كما قطعوا غيرهم من المبتدعة والدهريين والفلاسفة والمنجّمين، ورفعوا لواء مذهب الأشعري في الخافِقَيْن وأبرزهم في نشره ثلاثة: الأستاذ أبو بكر بن فُورَك، وأبو إسحاق الإسفراييني، والقاضي أبو بكر الباقلاني، فالأولان نشراه في المشرق، والقاضي نشره في المشرق والمغرب، فما جاءت المائة الخامسة إلا والأمة الإسلامية أشعرية وماتريدية لم يشذّ عنها سوى نزر من المعتزلة وشرذمة من المشبّهة وطائفة من الخوارج؛ فلا تجد عالمًا محقّقًا أو فقيهًا مدققًا إلا وهو أشعري أو ماتريدي، ومن خالف في ذلك لا يعدون في زمرة علماء أهل السنة كالزمخشري فإنه ملأ تفسيره من عقيدة الاعتزال، وابن كثير في تفسيره آثار من التشبيه على طريقة شيخه ابن تيمية المجسّم. ومن أراد قراءة علم الأشاعرة في الاعتقاد فلينظر في مؤلفات الإمامين البيهقي والسبكي وأمثالهما من الحفاظ والفقهاء، مما يأخذه من أهل العلم المحققين، فإن الكتب كثيراً ما تلاعبت بها أيدي المحرّفين، والعبرة بالنقل بالإسناد لا بمجرد النسبة إلى كتاب ما، فإن “الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء” كما قال الإمام عبدالله بن المبارك في ما رواه مسلم في صحيحه