قال النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ أُولَئِكَ (يعني بعض كفار الحبشة) إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” رواه البخاري.
قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون فى الصلاة نحوها واتخذوها أوثاناً لعنهم (الرسول) ومنع المسلمين عن مثل ذلك. فأما من اتخذ مسجداً فى جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه لا التعظيم له ولا التوجه نحوه فلا يدخل فى ذلك الوعيد، انتهى. نقله الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري وأقره.
فلذلك لا تَحْرُمُ الصَّلاةُ في مسجدٍ لمجرّد أن فيه قبراً، فالمسلمونَ كانوا ولا يزالونَ يُصَلُّونَ في مسجدِ رسولِ الله وفيه ثلاثةُ قبور، لأن المسجد النبويّ الشريف وسع بعد أن كانت القبور إلى جانبه فدخلت فيه، وليس أن المسجد بني على تلك القبور.
ونَصَّ الفقهاءُ على كراهةِ الصَّلاةِ إلى القبرِ كراهةً تَنْزِيهِيَّةً بلا تحريم إذا لم يَكُنْ حائلٌ بينه وبين المصلِّي، مَعَ تَوَجُّهِ المُصَلِّي إلى الكعبة والقبر أمامه.
أمَّا إذا حالَ حائلٌ بين القبرِ والمصلِّي كأنْ كانَ القبرُ مستورًا، فلا كراهةَ في ذلك فضلاً عن التحريم، ما دامَ المصلِّي مُتَوَجِّهًا إلى الكعبةِ المشرّفة كما هو الحالُ منذ عصور طويلة في مسجدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمَّا حديث البخاريّ: “لَعَنَ اللهُ اليهودَ اتخذوا قبورَ أنبيائهِم مساجدَ”، فذلك لأنَّ اليهودَ كانوا يتخذونَ القبورَ قِبْلَةً لهم يُصَلُّونَ إليها، ومن المعلومِ أنَّ المسلمينَ لا يفعلونَ ذلك.
وقال أهلِ السُّـنَّةِ والجماعة إن الصَّلاةُ إلى القبرِ المستورِ غيرِ البارزِ ليستْ مُحَرَّمَةً في حال كانَ القبرُ في جهةِ القِبْلَةِ، بل هي جائزةٌ وليستْ مكروهةً إلَّا إذا كانَ القبرُ بارزًا غيرَ مستور.
إذا كانَ القبرُ الذي في جهةِ القِبْلَةِ بارزًا غيرَ مستورٍ فالصَّلاةُ إليه من غيرِ أنْ يَقْصِدَ الْمُصَلّي صاحبَ القبر بالتعظيمِ، مكروهةٌ فقط، ولذلكَ نَصَّ الفقهاءُ الحنابلةُ على أنَّ الصَّلاةَ في المَقْبَرَةِ مكروهةٌ ولا تَحْرُمُ.
وكان المسلمونَ ولا يزالونَ يُصَلُّونَ في مسجد الرَّسُولِ في الْجهاتِ الأَربع: غربيَّ القبرِ وأمامَه وشرقيَّه وشَماليَّه. فمَنْ صَلَّى شَماليَّ القبرِ يكونُ مُتَوَجِّهًا إلى القبرِ، لكنِ الحُرْمَةُ انتَفَتْ والكراهةُ كذلكَ انتَفَتْ لكَوْن القبرِ مستورًا.
قال البُهُوتيُّ الحنبليُّ في شرح منتهى الإرادات ما نصُّه: “وتُكْرَهُ الصَّلاةُ إلى القبورِ بلا حائل، فإنْ كانَ حائلٌ لم تُكْرَهْ” اهـ. وأمَّا حديثُ رسولِ الله : “لا تُصَلُّوا إلى القبورِ ولا تجلِسُوا عليها” فليسَ فيه دِلالةٌ على تحريمِ الصَّلاةِ إلى القبورِ من غيرِ تفصيل، بل هو محمولٌ على اختلافِ أحوالِ القبرِ على التفصيلِ السَّابق. والحديثُ رَوَاهُ مسلمٌ والنَّسَائيُّ، والجلوس عليها معناه الجلوس لقضاء الحاجة كالبول والغائط، وإلا فمجرد الجلوس على القبر ليس حراماً، ففي البخاري أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يجلس على القبور