مولده ونشأته:
ولد عبد العزيز بن عبد السلام السلمي (المعروف بالعز بن عبد السلام) عام 577 هـ (1181 م) في دمشق ونشأ بها، وتفقه على أكابر علمائها، فبرع في الفقه والأصول والتفسير والعربية، حتى انتهت إليه رياسة المذهب الشافعي، وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصد بالفتاوى من كل مكان.. فاستحق لقب “سلطان العلماء” بجدارة كما أطلقه عليه تلميذه ابن دقيق العيد. وبعد أن اكتملت ثقافته اتجه إلى التدريس والافتاء والتأليف، وتولى المناصب العامة في القضاء والخطابة في مساجد دمشق – مسقط رأسه – أولاً، ثم في القاهرة بعد أن هاجر إليها بعد أن تجاوز الستين من عمره.
الأحداث التاريخية التي عاصرها:
تفتحت عينا العز بن عبد السلام على أحداث جسام كان يموج بها العالم الإسلامي، وعاش ثلاثاً وثمانين سنة (ت 660هـ) عاصر فيها أحداثاً سياسية متنوعة. فقد أدرك انتصارات صلاح الدين الأيوبي المجيدة، واسترداده بيت المقدس من أيدي الصليبيين (583 هـ)، وشاهد دولة الأيوبيين في هرمها وآخر أيامها، وشاهد دولة المماليك البحرية في نشأتها وعزّها، وشاهد بعض الحملات الصليبية على فلسطين ومصر، وشاهد الغزوة التترية المغولية الهمجية على الخلافة العباسية في بغداد، وتدميرها للمدن الإسلامية، وشاهد هزيمة التتار في عين جالوت بفلسطين بقيادة سيف الدين قطز سلطان مصر. شاهد صاحب الترجمة كل هذه الأحداث، فأثرت في نفسه، وراعَه تفتت الدولة الأيوبية القوية –قاهرة الصليبيين – إلى دويلات عندما اقتسم أبناء صلاح الدين الدولة بعد وفاته: دويلة في مصر، ودويلة في دمشق، ودويلة في حلب، ودويلة في حماة، وأخرى في حمص، ودويلة فيما بين النهرين. وبين حكام هذه الدويلات كانت تنمو الأحقاد والدسائس، والصليبيون على الأبواب، والتتار يتحفزون للانقضاض على بلاد الشام ومصر.
موقفه من الملك الصالح في دمشق:
إزاء هذه الأوضاع المتردية أخذ العز بن عبد السلام يدعو إلى أن يتحد سلطان الأيوبيين، وتتحد كلمة المسلمين لمواجهة الأخطار المحدقة بهم. وكانت وسيلته في ذلك: الخطب على المنابر، والوعظ ونصح الأمراء، وقول كلمة الحق الجريئة التي ألزم الله بها العلماء.. وقد حدث في ظل هذه الأوضاع القائمة أن الملك الصالح إسماعيل الأيوبي تصالح مع الصليبيين على أن يسلم لهم صفداً وقلعة الشقيف وصيدا، وغيرها من حصون المسلمين الهامة، مقابل أن ينجدوه على الملك الصالح نجم الدين أيوب! فأنكر عليه الشيخ ابن عبد السلام ذلك، حينها غضب الصالح إسماعيل منه، فقرر العز الخروج إلى مصر مغاضباً (639 هـ) فأرسل إليه الصالح أحدَ أعوانه يتلطف به في العودة إلى دمشق، فاجتمع به ولايَنَهُ، وقال له: ما نريد منك شيئاً إلا أن تنكسر للسلطان، وتقبّل يده لا غير. فقال له الشيخ بعزة وإباء العالم المسلم: ” ما أرضاه يقبّل يدي فضلاً أن أقبّل يده”.
العز في مصر:
وتوجه العز إلى مصر – وقد سبقته شهرته العلمية وغيرتُه الدينية وعظمته الخلُقية – فاستقبله سلطانها نجم الدين أيوب، وأكرمه وولاه الخطابة في جامع عمرو بن العاص، وقلّده القضاء في مصر، والتف حوله علماء مصر وعرفوا قدره، وبالغوا في احترامه.. فامتنع عالم مصر الجليل الشيخ زكي الدين المنذري عن الإفتاء بحضوره احتراماً له وتقديراً لعلمه، فقال: “كنا نفتي قبل حضوره، وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعيّن فيه”.
موقف من مواقفه مع السلطان نجم الدين أيوب:
ورغم المناصب الهامة التي تولاها الشيخ في مصر، فقد التزم بقول كلمة الحق، والمجاهرة بها في مصر، كما التزم بها من قبل في الشام، فهو لم يسعَ إلى المناصب الرفيعة، وإنما هي التي سعت إليه لجدارته بها، ولم يكن يبالي بها إذا رأى أنها تحول دون الصدع بالحق وإزالة المنكرات، فقد حدث مرة أن تيقن من وجود حانة تبيع الخمور في القاهرة، فخرج إلى السلطان نجم الدين أيوب في يوم عيد إلى القلعة،وشاهد العساكر مصطفين بين يديه، ومجلس المملكة، وما السلطان فيه يوم العيد من الأبهة، وقد خرج على قومه في زينته، وأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان، فالتفت الشيخ إلى السطان وناداه: “يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوىء لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟ فقال السلطان: هل جرى هذا؟ فقال الشيخ: نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور، وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة! يناديه كذلك بأعلى صوته والعساكر واقفون – قال: يا سيدي، لم أقم أنا بذلك، بل هو من زمن أبي. فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة؟ فأمر السلطان بإبطال تلك الحانة”. وعندما سأله أحد تلاميذه لما جاء من عند السلطان – وقد شاع هذا الخبر-: “يا سيدي كيف الحال؟ فقال: يا بني، رأيته في تلك العظمة فأردتُ أن أهينه لئلا تكبر نفسُه فتؤذيه. فقال: يا سيدي، أما خفتَه؟ قال: والله يا بني استحضرتُ هيبة الله تعالى، فصار السلطان قُدّامي كالقط”.
موقف لا ينسى:
ولم يتوقف الشيخ عن مصارعة الباطل والصدع بكلمة الحق، مهما كلفه ذلك من المتاعب والتبعات، فقد ذكر أن جماعة من أمراء المماليك – في عهد السلطان أيوب – لم يثبت عنده أنهم أحرار، وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، فبلّغهم ذلك، فعظم الخطب عندهم فيه، واحتدم الأمر، والشيخ مصمم على أنه لا يصح لهم بيع ولا شراء ولا نكاح، وتعطلت مصالحهم بذلك، وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاستشاط غضباً، فاجتمعوا وأرسلوا إليه، فقال: “نعقد لكم مجلساً، وينادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي”. فرفعوا الأمر إلى السلطان فبعث إليه فلم يرجع عن قراره، فجرت من السلطان كلمة، فيها غلطة، حاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر، وأنه لا يتعلق به، فغضب الشيخ وحمل حوائجه خارجاً من القاهرة، قاصداً الشام، فلم يصل إلى نحو نصف بريد (ستة أميال) إلا وقد لحقه غالب المسلمين، لا سيما العلماء والصالحين والتجار وأنحاؤهم حتى إن مصر لتخلو من أهلها. فبلغ السلطان الخبر، وقيل له: “متى راح ذهب ملكُك”! فركب السلطان بنفسه ولحقه واسترضاه وطيب قلبه، فرجع واتقفوا معه أن ينادى على الأمراء؛ لبيعهم. ثم حاول نائب السلطنة أن يلاطفه، فلم يفد معه، فانزعج النائب وقال: “كيف ينادي علينا هذا الشيخ، ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟ والله لأضربنه بسيفي هذا”. فركب بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده، فطرق الباب، فخرج ولد الشيخ فرأى من نائب السلطنة ما رأى، فعاد إلى أبيه وشرح له الحال، فما اكترث لذلك، ولا تغير، وقال: “يا ولدي! أبوك أقل من أن يُقتل في سبيل الله”، ثم خرج على نائب السلطنة، فحين وقع بصره على النائب، يبست يدُ النائب، وسقط السيف منها وارتعدت مفاصله وبكى، وأخذ يسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: يا سيدي ماذا تأمر، قال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم. قال: ففيم تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين. قال: من يقبضه؟ قال: أنا. فتمّ له ما أراد، ونادى على الأمراء واحداً واحداً، وغالى في ثمنهم، وقبضه وصرفه في وجوه الخير”.
وفاته:
وهكذا تمضي حياة العز بن عبد السلام في كفاح متواصل، وتواضع جم، ونفس أبية مترفعة عن حطام الدنيا، فنال ثوابيْ الدنيا والآخرة… وييتوفاه الله وتمر جنازته تحت القلعة بالقاهرة، ويشاهد الملك الظاهر بيبرس كثرة الخلق الذين فيها، فقال لبعض خواصه: “اليوم استقر أمري في الملك، لأن هذا الشيخ لو شاء لقال للناس: اخرجوا على بيبرس فيخرجوا عليّ”.
رحم الله سلطان العلماء وأكرمه كما أكرم كرامة العلماء، وأنعم علينا بمثيل له، إنه ولي ذلك والقادر عليه… اللهم آمين.
|