قال شيخنا رحمه الله
الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ وصلّى الله على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى جميع إخوانِه الأنبياء وسلَّم،.عِلمُ التّوحيدِ يُقالُ لهُ عِلمُ التّوحيدِ وعِلمُ الكَلام وعِلْمُ العقيدةِ وعِلمُ أصُولِ الدّين كُلُّ هذا أسَامي لهذا العِلم وسمّاهُ أبو حَنِيفَة الفِقْهَ الأكبر، لأنّه ألّفَ خَمسَ رَسائلَ أشهَرُها كتابُ الفِقْهِ الأكبر والثّاني كتابُ الفِقْهِ الأبْسَط والثّالث كتابُ الوَصِيَّة والرابع كتابُ العَالِم والمتعَلّم والخامسُ رسالةُ عثمانَ البَتِّي، رسالةُ أبي حَنيفة لعُثمانَ البَتِّي، هذا عثمانُ البتِّي كانَ مِنَ المجتَهِدين كالشّافعي ومالكٍ وأحمد، أبو حنيفةَ ألَّف لهُ رسالةً باسمِه في العَقيدة، هذه الرسائلُ الخَمس هي مؤلفاتُ أبي حنيفةَ في العقيدة، في التّوحيد، لأنّه في أيّامِه كانت المعتزلةُ قائمةً بنَشاطٍ في العِراق ولا سِيَّمَا في البَصرة، كانت البصرةُ مُبْتَلاَةً بمتَكلّمِي المعتزلة. وللشّافعي أيضًا فيه كلامٌ ردًّا على المعتزلةِ وكذلك مالكٌ لهُ رسالةٌ في الرّدِّ على المعتزلة، وقبلَ هؤلاء الخليفَةُ الرّاشِد عمرُ بنُ عبدِ العَزيز له رسالةٌ في الرّدّ على المعتزلة لإبطالِ مَزاعِمِهم بالحُجَج النّقليّةِ والعَقليّة،. فإذا قيلَ عِلمُ الكَلام مُرادًا به ما عليهِ أهلُ السُّنة مِن العقائد إنّما سُمِّي عِلمَ الكلام لأنَّ مِن أعظمِ مسائلِ هذا العِلم إثبات كلامِ اللهِ تَعالى مِن غَيرِ تَشبِيه، لأنّ النَّاسَ افترَقوا ثلاثَ فِرَق في مسألةِ الكلام، قِسمٌ مِن النَّاس قالوا اللهُ متكلِّمٌ بكلامٍ يَخلُقُه في غَيره لا بكلام هو صفة قائمة بذاتِه، هؤلاء المعْتزلةُ فكانَ أكثَرُ الرَّدِّ علَيهم، فكَانَ أكثَرُ الرّدِّ في هذا العِلم مِن قِبَل أهلِ السُّنَّة الذينَ ألّفوا في العقيدةِ أو درَّسُوا الرَّدَّ على المعتزلةِ لأنّهم يَنفُونَ عن اللهِ تَعالى الكلامَ صفة لهُ، يقولونَ اللهُ متَكلّم لا بكلامٍ هو قائمٌ بذاتِه بل بكلامٍ يخلُقُه في غَيرِه قالوا خَلَقَ الكَلامَ في الشّجَرةِ التي كانَ موسَى عندَها فسَمِع موسَى ذلكَ الصّوتَ، ما سمِعَ كَلامًا قائِمًا بذاتِ اللهِ لأنَّهم يرَونَ إثباتَ صِفَةٍ للهِ تَعالى قائمَةٍ بذاتِه قَولا بتَعَدُّد الإله، على زَعمِهم إذا قِيْلَ اللهُ مَوجُودٌ أزليٌّ ولهُ صِفاتٌ مَوجُودَةٌ أزليّةٌ بأزليَّةِ الذّات، يرَونَ أنّ هَذا تَعديدٌ للقُدَماء بمعنى أنّ هذا فيهِ إثباتُ آلهةٍ، يقُولونَ في تَشنِيعِهم على أهلِ السُّنّة يقولونَ النّصارى ثَلَّثَت وأنتُم زِدْتُم على الثّلاثِ قبَّحَهُم اللهُ تَعالى، يُشنّعونَ على أهلِ الحَقِّ، مع أنَّ ما يَنسبوه إليهم لا يَلزَمُهم لأنّهم لا يقولونَ بذَواتٍ متعَدِّدين قُدَماء، هذا الذي يَلزَمُ منهُ القَولُ بتَعدُّدِ الإلهِ، أمّا ما عليهِ أهلُ الحقِّ مِن إثباتِ ذاتٍ واحِدٍ مُتَّصِفٍ بصِفاتٍ أزليّةٍ أبديّةٍ لا هيَ عَينُه ولا هيَ غَيرُه هذا لا يَلزمُ منهُ إثباتُ ذواتٍ قُدَماءَ بل هذا إثباتُ ذَاتٍ واحِدٍ مُتّصِف بنُعُوتٍ قَديمةٍ بِقِدَم الذّاتِ لا تُفَارِقُ الذّاتَ لأنّها أزليةٌ أبديَّةٌ، فهم أي المعتزلةُ عَمَّمُوا هذا النّفيَ حتّى قالوا عالمٌ بنَفسِه وأحيانًا يقولونَ لنَفسِه لا بعِلْمٍ كمَا قالوا قَادرٌ بنَفسِه أو لنَفسِه لا بِقُدرةٍ وكما قالُوا شَاءٍ بذاتِه أو لِذاتِه لا بمشيئةٍ وكذلك قالوا في العِلم، فلَمَّا كانَ أكثرُ الكلامِ مع هؤلاءِ الضَّالّين المعتزلةِ في مسألةِ الكلام سُمِّيَ هذا العِلْمُ علمَ الكلام، وبالنّسبَة لأهلِ السُّنَّة معنى عِلْم الكَلام العلمِ الَّذي يُثْبَتُ به كلامُ الله على أَنَّهُ نَعْتٌ لهُ لا على معنى البِدعِيّيْن أنّهُ شَىءٌ قائمٌ بغَيره، كلامُ الله عندَ المعتزلة شَىءٌ قائمٌ بغَيره لا يَعتَقدونَ أنَّ اللهَ تَقومُ بذَاتِه صِفَةُ الكلام وكذلكَ سائرُ النّعُوتِ لا يُطلِقُونها يقولونَ هوَ عَالم هو قادرٌ هو سميعٌ هوَ بَصيرٌ هوَ متَكلّمٌ لكن لا يقولونَ إنّه عالم بعِلمٍ متكَلّمٌ بكلام قائمٍ بذاتِه مُريدٌ بإرادةٍ قائمةٍ بذاتِه هذا عندَهم إشْراكٌ، بلاءٌ على المسلمينَ هؤلاء المعتزلة، أنا أعجَب ممن يُدرّسُ في كتاب الزَّمَخْشَري في تفسيره، أُناسٌ مشَاهير مِن أهل السُّنَّة كانوا يَشْتَغِلونَ بإقرائِه للنّاس، مع أن الزّمخشريَّ ليسَ فَصيحًا بالسَّلِيقَة، دَرسَ النّحو، وطالَع كُتُبَ اللّغة، أمّا النَّحوُ والبَلاغَة ليسَا سَلِيقةً له، أي ليسَا طَبِيعَةً لهُ. كانَ يَنقُل مِن كتُبِ أهلِ السُّنَّة ككتابِ سِيْبَوَيْه وغَيرِه مِن عُلَماءِ النَّحْو واللُّغَة، ثم صارَ بتَنسِيْقِ الألفاظِ يُوهِمُ النّاسَ أنّهُ بَارعٌ في اللّغة، في النَّحْو، وهوَ ليسَ ببَارعٍ لا في اللّغةِ ولا في النَّحْو، لكن مَا هذه الفِتنَة، أُنَاسٌ مَعرُوفونَ مِن أهلِ السُّنَّة والجمَاعةِ يَذكرُونَه في كتُبِهم، كأنّهم ما قَرأوا لهُ تَرجَمةً ما عَرفُوا حَالَهُ إنّما اقتَصَرُوا على ما اشتَهَر بهِ مِن أنّه بارعٌ في اللّغةِ والنّحْو والبَلاغَة، انخَدَعُوا، لكن السّبكيّ كانَ يُقْرئُ في تَفسيرِه الكَشّاف حتّى وصَلَ إلى سُورَة التّكوير فلَمّا رأى ما وجَدَ فيهِ ممّا هوَ مِن شَنائِع المعتَزلةِ نفَرَ قَلبُه فقَطَع تَدريسَ هذا الكتاب وألَّفَ رِسالَةً سمَّاها سَبَبُ الانْكِفَافِ عن إقْرَاءِ الكَشَّاف، الفِرقَةُ الثّانيَةُ قالُوا كَلامُ الله بحَرفٍ وصَوتٍ كمَا هو بالنّسبَة لنا، ككَلامِنا بحَرفٍ وصَوت، قالوا بحُروفٍ مُتَعاقبَةٍ أي يَنطِقُ بهذا الحَرفِ ثم بالذي يَلِيه ثمّ بالذي بعدَ ذلكَ كمَا هو بالنّسبَة للبَشر، هؤلاء يُقالُ لهمُ المشَبّهةُ، لأنّهم شَبَّهُوا اللهَ بخَلقِه، وهؤلاء كانوا على أحْوالٍ شَتّى بَعضُهم أوقَحُ في التّعبِير مِن بَعض، بعضُهم بلَغَ إلى أن قالَ هذه الحروفُ المنقُولَةُ في المصحَف أزليَّةٌ وزادَ بعضُهم على ذلكَ بقَولِ إنّ الأوراقَ التي كُتِبَ عليها أزليّة، وهذا في الحقيقةِ خُروجٌ عن مقتَضَى العَقلِ كما أنّه خُروجٌ عن الشّرع، اللهُ تَعالى أَنزلَ في كتابِه آيةً مُحْكمَةً تَمنَعُنا مِن أن نَقِيسَه على خَلقِه في الكلام وفي العِلم وجميعِ نُعُوتِه،((ليسَ كمِثلِه شَىء)). وَنَصَبَ لنا أدلَّةً عَقليّةً تَمنعُنا عن أن نَنعَتَهُ بشىءٍ حَادث لم يكن قائمًا بذَاتِه ثمّ قام بذاته، هؤلاءِ يُعتَبَرونَ ضَالّينَ كما تُعتبَرُ المعتزلةُ ضَالّين.الفَريق الثّالِثُ هُم أهْلُ السُّنَّة والجماعَة قالوا اللهُ متكلّمٌ بكلام هو نَعْتٌ أي في الأزلِ لا يتَغيّرُ وليسَ بحُروف وأصواتٍ، وقالوا إنّ الكتُبَ المنـزَّلةَ على الأنبياء ألفَاظُهَا مخلوقةٌ لله أمّا ما هيَ عِبارةٌ عنهُ ذاكَ الكلامُ الأزليّ الَّذي هو نَعْتٌ مِن نعُوتِ اللهِ الذّاتيّة، هكذا يُفَصِّلُ أهْلُ الحَقّ.
أهلُ الحقّ قالوا كلامُ اللهِ نَعتٌ قائمٌ بذاتِه كسَائر نعُوتِه الذّاتيّةِ وأرَادُوا بذلكَ الكلامَ الذّاتيَّ الَّذي هذه الحروف المُنَزَّلةُ عِبارةٌ عنه ليسَت عَينَه.ولم يَطعَن إمامٌ مُعْتَبَرٌ في هذا العِلم الَّذي هو مقصَدُ أهلِ السُّنَّة والجمَاعةِ مِنَ السَّلَفِ والخلَف، هذا لا يَثبُتُ، الطَّعْنُ والتّشنِيعُ عليهِ مِن إمامٍ ومِن عَالمٍ مُعتَبَر، وما يُرْوَى عن الشّافعِيّ أنّه قال: “*لأَنْ يَلْقَى اللهَ العَبدُ بكُلِّ ذَنْبٍ ما عَدَا الشِّرْك خَيْرٌ لهُ مِن أن يَلقَاهُ بِعِلْم الكَلاَم*” هذا اللّفظُ غَيرُ ثَابتٍ عن الشّافعِيّ، اللّفظُ الَّذي هوَ ثابتٌ عنهُ هو: “*لأنَ يَلْقَى اللهَ العَبْدُ بِكُلِّ ذَنبٍ ما عَدا الشّرك خَيرٌ لهُ مِن أن يَلقَاهُ بشَىءٍ مِن هذِه الأَهْواء*” الأهواءُ جَمْعُ هَوى وهوَ ما تَعَلَّقَ به البِدْعِيُّونَ مِن مُعتَزلةٍ وشِيعَةٍ وخَوارج ومُرْجِئةٍ ونَجّاريّةٍ وغَيرِهم وهم اثنَتانِ وسَبْعُون فِرْقَة، والمعتزلةُ عِشرُونَ فِرقةً والشِّيْعَةُ كذلك، ثمّ الخوارجُ أيضًا كذلكَ عِشرُونَ فِرقَة وتَتِمَّةُ الاثنتَينِ والسَّبعِين يكونُ منَ النّجّاريّةِ والمرجئةِ وأشبَاهِهم.الأهواءُ جمعُ هوى فكُلُّ عقيدةٍ حدَثَت بعدَ السَّلَف، بعدَ الصَّدْر الأوّل الصّحابةِ ومَن تَبعَهُم تُسمَّى الأَهْواء، الشِّيعَةُ حدَثت في عهدِ سيّدنا عليّ والاعتزالُ حدَث في وقتٍ قريبٍ مِن ذلكَ وعقيدةُ الخَوارج كذلكَ في عَهدِ عليّ حَدثت، أمّا سائرُ الفِرَق حدَثت بعدَ ذلك، هؤلاء همُ الأهواء، الشّافعيّ لما قال بشَىءٍ مِن هذه الأهواء يَعني به مسَائلَ هؤلاءِ البِدعِيّينَ الذينَ خَالَفُوا السَّلَف الصّحابةَ ومَن على مَذهَبِهم في الاعتقاد، هذا مَقْصَدُ الشّافِعيّ، لهذا أورَدَ البَيهقيُّ بإسنادٍ مُتّصِل إلى الشّافعي وكذلكَ غيرُه، أمّا العِبارةُ الأخرى لم تَثبُت، ما أَحَدٌ أَوْرَدهَا بإسنادٍ مُتَّصِل، أمّا ما حدَث مِن الاختلافِ بينَ أهلِ السُّنَّة مِنَ القَولِ بأنَّ صفاتِ الأفعال حَادثة أو ليسَت بحادثة بل قديمة فَهذا لا ضَيْرَ فيه على كِلاَ الفَريقَين، مَن قال إنّها حادثةٌ لا ضَيْرَ عليهِ لأنّه لا يَعني أنّ صِفةً منها حدَثَت في ذاتِ الله، بل كلٌّ منهُم مُوافِقُونَ للفَريق الآخَر بأنّ اللهَ لا يتّصِفُ بشَىءٍ لم يكن مُتّصفًا به في الأزل، أي لا تتَجَدَّدُ لهُ صِفَةٌ.الجميعُ اتّفَقُوا على أنّ اللهَ لا تتَجَدَّدُ لهُ صِفةٌ أي لا يَقُومُ بهِ نَعتٌ لم يكن قائمًا بذاتِه في الأزل، عِلمُه تَعالى قائمٌ بذاته في الأَزل والأبد كذلكَ جميعُ نُعُوتِه قائِمَةٌ بذاتِه في الأزل والأبَد، ليسَت حادثةً في ذاتِ الله بعدَ أن لم تكن، فصفَاتُ الأفعالِ عندَ الفَريقِ الذينَ قالوا إنَّها حَادثةٌ لا يَعنُونَ بذلكَ أنّ اللهَ اتّصَف بها بعدَ أن لم يَكن مُتَّصِفًا بها، بل يَعنُونَ بذلك أنَّها مِن مُتَعَلَّقَات القُدْرة الأَزليّةِ أي مِن آثار القُدْرَة، وهيَ كثيرةٌ، صِفاتُ الأفعالِ كثِيرةٌ لا تَدخُلُ تحتَ الحَصْر إمَاتَةُ اللهِ للأشياء وإحياءُ الأشياءِ وإسْعَادُهم وإشقاؤُهُم ورَزْقُهُم ونحوُ ذلكَ كُلٌّ يُقالُ لهُ صِفاتُ الأفعال، هذه الصّفاتُ هيَ التي اختَلَف فيها عِباراتُ المتكلّمينَ المتقَدّمين ومَن تَبعَهُم، أبو حنيفةَ وأصحَابُه كانوا عُرِفُوا بأَنَّهُم يَعتقدونَ أنَّها أزليَّة كذلكَ البُخَاري في صحِيحِه في كتاب التّوحيد الَّذي هو آخِرُ الكتاب يقول فيه فِعْلُ اللهِ صِفَةٌ لهُ في الأزل والمَفْعُولُ حادِثٌ، مخلُوق، وكذلكَ أبو حنيفةَ كانَ يقولُ مثلَ ذلك.أمّا الأشاعرَةُ المتَقدّمونَ منهم كثيرٌ منهم كانوا على هذا وبَعضٌ منهم قالوا صِفاتُ الأفعال ليسَت صِفاتٍ قائِمة بذاتِ الله هي آثارُ القُدْرَة فهيَ حَادثة. قالوا صفاتُ الفِعل آثارُ القُدرة ليسَت نُعُوتًا قائِمَةً بذاتِ الله. وكلا الفَريقَين لا يقولُ بقِيام صِفةٍ حَادثةٍ في ذاتِ الله هذا مَحلُّ اتّفاقٍ فإذًا لا ضَيْرَ على هؤلاء ولا على هؤلاء، مَن قال إنها أزليّةٌ أبديّةٌ لا بأسَ عليه ومَن قال إنّها حادثةٌ ليسَت قائمةً بذاتِ الله، ليسَت ممّا اتّصفَ اللهُ بها بَعدَ أن لم يكن متّصِفًا بها، بل هيَ آثارُ القُدْرة الأزليّة الأبديّة.