الله لم يخلق شيئا مما خلق عبثا. لا يخلو فعل الله من حكمة. الله حكيم عليم.
قال اللهُ تبارك وتعالى: “أَيَحْسَبُ الإنسانُ أن يُترَكَ سُدًى” (القيامة، 36).
قال الخازن في تفسيره أي هملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف في الدنيا ولا
يحاسب في الآخرة.
المقصود هو بيان أنّ اللهَ تَبارك وتعالى ما خلَق الخلقَ لكي يكونوا
كالهَمَل أي كالإبل التي تَرعَى بلا راعي. الله خلقَ الخلق ليَأمُرَهُم
بأداءِ الواجبات واجتِناب المحرماتِ ليَجعَل جزاءَ المطِيعِين له في هذه
الدّنيا النّعيمَ المقيم الدّائمَ في الآخرة، ويجعَلَ جزاءَ العَاصِينَ
المخَالفِينَ للأمر والنّهْي العذابَ الألِيم في الآخِرة.
أَسْعَدُ الخَلق في هذه الحياةِ مَن وُفِّقَ لامتِثالِ أمرِ الله تعالى
فأدَّى الواجِبات، ولاجْتِنَابِ محَارِمِه فاجْتَنَب المحرَّمَاتِ. هذا
أسعَدُ خَلقِ الله لأَنّه أرضَى خالقَه، قال الله تبارك وتعالى: “إنّ
الذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أولئكَ هُم خَيرُ البَريَّةِ
جَزاؤهم عندَ ربّهِم جَنّاتُ عَدْنٍ تَجرِي مِن تَحتِها الأنهارُ
خَالدِينَ فيها أبدًا رضيَ اللهُ عنهم ورَضُوا عنه ذلكَ لِمَن خَشِيَ
ربه”.
هؤلاء هُم أسعَدُ الخَلق لأنّ الله تبارك وتعالى رضيَ عنهُم كما أنهم
راضُونَ عن الله.
رِضَا الله تعالى صِفةٌ مِن صِفاتِه ليسَت كرِضا الخلق. وأمّا رِضَا
العبيدِ عن ربِّهم فذلكَ أنهم آمنوا بهِ واستَسلَمُوا لقَضائِه وسَلَّموا
الأمرَ لهُ، لم يَعتَرضُوا على الله في أمرٍ منَ الأمور، إن أصابَتْهم
فَاقَةٌ أي فقر لا يَعتَرضُونَ على الله، وإن أصابتهُم مُصيبَةٌ في
أبدَانِهم لا يَعترضُونَ على الله، وإنْ أصَابَتهُم مَصائبُ في أهْلِيهِم
فلا يَعتَرضُونَ على الله. هذا معنى رِضَا العباد عن ربّهم.
الراضي عن الله هو مَن آمَن بالله ورسولِه وبما جاءَ عن نبِيّه صلى الله
عليه وسلّم، لأن معنى الإيمان برسول الله قَبُولُ كلُّ ما جاءَ بهِ رسولُ
الله بلا تَفريقٍ بينَ شَيءٍ وشَيء، بَينَ حُكمٍ وحُكم، بل هو أن يَرضَى
العبدُ بكُلّ ما جاءَ بهِ سيّدُنا محمّد، سواء كانَ منَ الاعتقاديّات أو
كانَ منَ الأحكام العمَلِيّة، المؤمنُ يَرضى بكُلّ ذلكَ، ولا يتَسَخّطُ
على اللهِ إن أصَابَتْه البَلايا والنّكبَاتُ والمصَائب. ثم إنّ عِبادَ
الله الصّالحِينَ على مَراتبَ فمِنهُم مَن بلَغ بهمُ الحالُ إلى أنهم
يَفرَحُونَ بالبلايا كما يَفرَحُ غَيرُهم بالعَطاء والرّخَاء. هؤلاء هُم
عبادُ اللهِ المقرَّبُون وهُم طبَقةٌ خَاصّةٌ في عبادِ الله المؤمنينَ
الصّالحِين.
الله ذكر في هذه الآية هؤلاءِ العبادِ الذينَ آمَنُوا وعمِلُوا
الصّالحاتِ أي آمنُوا بالله ورسوله وبكُلِّ ما جاءَ به رسولُه
“وعَمِلُوا” أي أدَّوا الفرائضَ. الله أخبرنا بما وعَدَ هؤلاءِ العباد
المؤمنين ممّا هو وعدٌ مُنْجَزٌ لهم في الآخِرَة، قال تعالى بعد أن
مدَحَهُم بأنهم خيرُ ما خَلَق الله، بعد أن قالَ فيهم “أولئكَ هُم خَيرُ
البَريّة” أي خَيرُ خَلْقِ الله، بشّرَهُم بأنّ لهم في الحياةُ الثّانية
جَنّاتٍ تجري مِن تَحتِها الأنهار وأنهم خَالِدُون فِيها أي لا يموتونَ،
فحيَاتُهم مُستَمِرّةٌ إلى غيرِ نهاية، هم باقونَ بمشية الله تعالى لهم
هذا البقاء. الله جعَل بقاءهُم في الجنة بقاءً لا يتخلَّلُه فاقةٌ ولا
بؤسٌ ولا مرَض، جعَلهم عائشِين في نَعيمٍ لا يَنقَطِع ثم أكّدَ بَيانَ
حَالهم بقوله تعالى “ذلكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه”. هؤلاء المؤمنونَ الذين
خَشُوا ربَّهم ليسَ حَظُهم في الآخرة في نعيمٍ يُشاركُهم في جميعِه
غيرُهم، بل هم يشَاركُون سائرَ أهلِ الجنّة في أشياءَ وخَصّهُم الله
تعالى بأشياءَ ليسَت لغَيرِهم. وهذا النّعيمُ الخاصّ بهم شَيءٌ لم يُطلِع
اللهُ تعالى أحَدًا مِن خَلقِه عليه. لا يَعلَمُ ذلكَ النّعِيمَ خَزَنَةُ
الجنّة. لا يعلَمُه أحَدٌ إلا الله. الله أخفاهُ لهم فيُوفَّونَه بعدَ
دخُولهم الجنّة، لأنّ نعيمَ الجنّةِ قِسمان قِسمٌ ينَالُه كلُّ مَن دخَل
الجنّةَ وهو أنهم يَنعَمُون فلا يَبْأَسُونَ أبدًا ويَحيَون فلا يموتون
أبدًا ويكونونَ أصِحَّاءَ فلا يمرضونَ أبدًا ويكونونَ شبابًا فلا
يَهرمُون أبدًا، ومِن ذلك الأنهارُ الأربعَة وهي النّهرُ الذي هو مِن
حَليبٍ لا يفسُدُ ولا يَحْمُض، والنهرُ الذي هو من ماءٍ لا يتَعفّن،
والنّهر الذي هو مِن خَمرٍ لا يجِدونَ منها أذًى بالمرَّة لا صُداعَ رأسٍ
ولا غيرَ ذلك إلا اللّذةَ والفَرح مِن دونِ أن يُعقِبَهم تَغَيُّرٌ في
العَقل، والنّهرُ الذي هو مِن العَسَل المُصَفَّى. هذه الأنواع منَ
النّعيم كُلُّ أهلِ الجنّة يشتركونَ فيها. وهناك نعيمٌ هو أحبُّ نعِيم
الجنّة إليهم هو رؤيةُ ربِّهم، يرَونَه تبارك وتعالى كما وصَف نَفسَه في
القرآنِ الكريم “ليسَ كمثله شيء”، يرَونَ مَوجُودًا لا يُشبِه شيئًا مِنَ
الموجُودَات، لا يرَونَه متَحيّزًا في مَكانٍ أو جميع الأماكِن. لا
يرَونه ذا لونٍ. لا يرَونَه ذا شَكل. هذا أحَبُّ نعِيم الجنّة إليهم.
والقِسمُ الآخَرُ مِنَ الخَلْق همُ الذينَ وصَفَهمُ الله تعالى بقوله:
“إنّ الذينَ كفَرُوا مِن أهلِ الكتاب والمُشركِين في نارِ جهَنّمَ
خَالدِينَ فيها أولئك هُم شَرُّ البَريّة”. البرية معناه الخَلقُ. ولا
يكونُ مِن أهلِ جهنم على الدّوام والاستمرار إلا مَن ماتَ على الكفر.
وأمّا مَن ختَم الله تعالى له بالإيمان ولو سبَق له أن كانَ على الكفر
لشيء من الوقت ثم تشهد للدخول في الاسلام، فإنه لا يكونُ مِن أهل جهنَّم
الخالدينَ فيها.
بعض اهل الكبائر من المؤمنين يدخلون جهنم بسبب ذنوب كبيرة ارتكبوها.
هؤلاء لم يسامحهم الله. هؤلاء لا بد أن يخرجوا من جهنم الى الجنة خالدين
فيها ابدا ولو بعد حين لأنهم ماتوا مؤمنين.
اللهم اجعل كاتبها وناشرها من أهل الجنة، آمين