قال شيخنا رحمه الله
وهكذا الذي لم يشأ الله لهُ أن يَهتَديَ لا يَهتَدي مهما رأى منَ العَجائب، أمّا الذي شاءَ اللهُ لهُ الهُدى يُسلِمُ ويَهتَدِي، إمّا بسَبَب رؤية معجِزةٍ لنَبيٍّ مِنْ أنبياءِ الله وإمّا بغَيرِ ذلكَ كأن يُفَكّرَ في مصنوعاتِ الله تَعالى ويُفَكّر في نَفسِه يقُول أنا لا يَصِحّ في العقل أن أَخلُقَ نَفسِي لا بُدّ لي مِن خَالقٍ خلَقَني لا يُشبِهُني بوَجْهٍ مِنَ الوجُوه وهوَ الذي خلَق هذه الأرضَ التي تحمِلُني وهذه السّماءَ التي تُظِلُّني وهذا الهواءَ وهذَينِ النّيِّرَين الشّمسُ والقَمرُ والنُّجوم وغيرَ ذلك، هو الذي خلَقَ هذه الأشياءَ وهوَ وجُودُ شَىءٌ لا يُشبِهُ الأشياءَ لا يُشبِهُ الموجُودَات، مَن فتَح اللهُ قَلبَه لمعرفةِ اللهِ يُريْه هذَا البُرهانَ، يُريه هذَا الدّليلَ فيؤمنُ بالله ولو لم يَسمَع نبيًّا مِن أنبياءِ اللهِ يقُولُ أيّها النَّاسُ إنّ لكُم ربًّا خلَقكُم يَستَحِقّ أن تَعبُدُوه فاعبُدوه واتركُوا ما سِواه، لو لم يَسمَع مِن نَبيّ مِن أنبياءِ الله، الله تَعالى إذا فتَح قلبَه يَعرفُ أنّ اللهَ مَوجُودٌ وأنّه لا يُشبِهُ شَيئًا وأنّ كُلَّ ما يَدخُل في الوجودِ فبِمَشِيئَتِه دَخلَ وبتَخلِيقِه وبفِعلِه دخَل في الوجودِ، يقولُ أنا لم أكن ثم كُنتُ فأنا لا بُدّ لي مِن مُكَوِّن لأنّ الذي لم يكن ثم كانَ لا بُدّ مِن أن يكونَ لهُ مُكَوّنٌ أدخَلَه في الوجود والذي كوّنَه لا يكونُ مثلَه، فهذا الشّخص يَعرف هذَا، مِن قَلبِه يَعرف لأنّ اللهَ فتَح قَلبَه ولم يَضع على قَلبِه قُفلا يَمنَعُه منَ المعرفةِ والإدراكِ أمّا بَعدَ ذلكَ فلا بُدَّ أن يَسمَع مِن طريق الأنبياء أمورَ الدّين كالصلاةِ والصيام وما أشبهَ ذلك، هذَا لا بُدّ أن يَسمَعه مِن نَبيّ مِن أنبياءِ الله تَعالى أو ممّن بلَغَه مِن طَريقِ نَبيّ مِن أنبياءِ الله، لا بُدَّ أن يَبلُغَه حتّى يؤمِن بذلكَ فيَكمُل إيمانُه، لأنّ الإِنسانَ الذي عرَف اللهَ مِن دون أن يَسمَع مِن نَبيّ مِن أنبياءِ اللهِ دَعوَة التّوحيد وهيَ أنّ العالَم لهُ إلهٌ خلَقَه وأَوجَدَه، لم يَسمَع مِن نَبيّ مِن أنبياءِ ولا ممّن سمِع مِنَ الأنبياءِ ما سمِعَ مِن أحَدٍ مِن خَلقِ الله لكنّ اللهَ تَعالى فتَح قَلبَه فعرَف الله تَعالى، مِن صِحّة عقلِه عرَف، العَقلُ إذا كانَ صَحيحًا قوِيًّا للأمور المعنويّةِ وللأمور الحسِّيّةِ يُدرِك ذلكَ ويَفهَمُه، لكن القُلوبَ لها حُدودٌ لا تتَجاوزُها فالقَدْر الذي شاءَ اللهُ لها أن تَعرفَ تَعرفُه والذي لم يشأ اللهُ أن تَعرفَه وتصلَ إليه لا تَعرفُه ولا تَصِلُ إليه، هؤلاء الأورُوبيّون الذين يَختَرعُونَ هذه الأشياءَ العجيبةَ اللهُ تَعالى فتَح قلُوبَهم لهذه الأشياء، ما فتَح قلُوبَهم لمعرفةِ وَحدانيّة الله، أنّ هذَا العالم لهُ مُكَوّنٌ كَوّنَه بقُدرته وتَقديره وإرادتِه وهو يُصَرّفه، ما “أعطاهُم” هذَا فبَقُوا على كُفرهم. أمّا في أمُور الدُّنيا اللهُ تَعالى فتَح قلُوبَهم فعَرفُوا وأَدرَكُوا أشياءَ غَامضَة كصُنع الطّائرات وغيرِ ذلك، اللهُ تَعالى فتَح عليهم في كثِيرٍ مِن أمُور الدّنيا أمّا في تِلكَ النّواحي أقفَل قلُوبَهم، ناحيَةَ مَعرفةِ اللهِ وتَنـزيهِه أي أنّهُ مَوجُودٌ لا كالموجُوداتِ لا يَفهَمُونَ هذَا، مع كُلّ هذه الإدراكاتِ التي فُتح عليهم في أمُور الدُّنيا يَعبُدونَ إنسانًا مِثلَهم، عيسَى عليه السَّلام إنسَانٌ مِثلُهم خرَج مِن بَطْن أنثى كما يَخرُج النّاسُ ثم كانَ حَجمُه صَغيرًا ثم كانَ لا يتَكلّم ولا يَمشِي ثم تَطَوَّر فصارَ يَمشِي وصارَ يتَكلَّم وصارَ يَعلَمُ أشياءَ بَعدَ أن كانَ لا يَعلَمُ شيئًا، الإِنسانُ عندَما يَخرُج مِن بَطنِ أُمّه اللهُ تَعالى ما يُخرجُه عالمًا. ما يُخرِجُه وهو عالمٌ ما يُخرجُه وهو بصِفَة قُوّةِ المشْي والكلام بل اللهُ تَعالى يُخرِجُه لا يَعلَمُ شَيئًا ولا يَمشِي ولا يتَكلّم ثم يُطَوّرُه ويُنَمّي جسدَه، يَزيدُ بالطُّول والعَرْض بقَدرٍ لا يَعلَمُه هوَ الشّخصُ لو قيلَ له ما الفَرقُ بينَ اليوم وأمسِ بالنّسبَة لنُمُوّ جِسمِك لا يعرف، هذَا ألا يَدُلُّ، لو كانَ اللهُ فتَح قلُوبَهم ما يَفهَمُونَ أنّ هذَا الإِنسانَ لهُ خَالقٌ مُكَوّنٌ يُنَمّي جسَدَه ويُطوّرُه إلى أطوارٍ يُعطِيْه قُوّة المشي والكلام ويُعطِيه معلوماتٍ وإدراكاتٍ بعدَ أن لم يكن لهُ شَىءٌ مِن ذلكَ.الحاصلُ أنّ الإِنسانَ لا يَنالُ شيئًا إلا ما شاءَ اللهُ لهُ مِن فَهم وإدراكٍ وقوّةٍ جِسمانيّةٍ وقُوّةٍ عَقليّةٍ، ثم إذا نظَرنا في تاريخ سيّدِنا موسى نجِدُه لقِيَ بَلاءً كبيرًا مِنَ البشَر فصَبَر وتحَمَّل حتّى وصَلَ إلى المقَاماتِ التي شاءَ اللهُ لهُ، كذلكَ عيسى عليه السَّلام لقِيَ مِنَ البَلاء العَجَبَ العُجَاب وأُمُّه التي لم تَكُن نَبِيّةً وإنما كانت وَليّةً لقِيَت بلاءً كبيرًا، هيَ طَاهرةٌ عفيفَة تَقيّةٌ عابِدةٌ نسَبُوها اليَهودُ إلى الزّنا، قالوا هذه مريمُ التي كانَ النَّاسُ يَمدَحُونَها قد حمَلَت مِنَ الزّنا، فتَأذَّت مَريمُ مِن ذلكَ تَأذِّيًا شَديدًا حتّى إنّها لما ظَهرَ الحَمْلُ ظُهُورًا تامًّا قالت “يا لَيتَني مِتُّ قَبْلَ هذا” مِن شِدّة حَزَنِها “*وكُنتُ نَسْيًا مَنسِيّا“(أي شَيئًا مَترُوكًا لا يُعرَف ولا يُذكَر)، هذَا أليسَ بَلاءً كبيرًا، هذَا حالُ الأولياءِ والوَلِيّات يَلقَون في الدُّنيا بلاءً كبيرًا، ثم سيّدُنا محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلم كَم مِن مَصائبَ أصَابَتْه فصَبَر وتحَمّل حتّى بلَغ إلى الأحوالِ التي كتبَها اللهُ لهُ، فالمؤمِنُ يَلزَمُ أن يُوطِّنَ نَفسَهُ على الصّبر، هذَا الذي ذكَرناه هوَ أحَدُ أنواعِ الصّبرِ وهوَ الصّبرُ على البلاءِ وهناكَ نَوعانِ آخَرانِ مِنَ الصَّبر أحَدُهما الصّبْرُ على مشَقّاتِ العِبادَة، الإِنسانُ يَستَصعِبُ أيّامَ شِدَّةِ البَردِ الوضُوءَ وبالأَولى يَستَصعِبُ الغُسلَ مِنَ الجنَابَةِ والحيض، المرأةُ تَستَصعِبُ إذا لَزِمَها الغُسل منَ الحيض لتُؤدّي الصّلواتِ التي فرضَها اللهُ علَيها، هذه مِن جملَة أنواع الصّبْر على مَشَقّاتِ العِبادات، كذلكَ الصّيام فالإنسانُ يَصُوم أحيانًا في وَقتٍ يَكونُ شَديدَ الحَرّ فيَجُوع ويَعطَشُ ويَصبِرُ يَكفُّ نَفسَه عن الماءِ الذي نَفسُه تتَعَلَّقُ به، هذَا أيضًا مِنَ الصّبر الذي كلَّفَ اللهُ بهِ عِبادَه، والقِسمُ الثّالثُ هوَ الصّبرُ على كَفّ النّفسِ عن المحرّمَات التي حَرّمَها اللهُ وهيَ أنواعٌ كثِيرةٌ، المحَرّماتُ التي النّفسُ تَميلُ إليها ويجِبُ على الإِنسانِ أن يَكُفَّ نَفسَه عنها أنواعٌ كثيرةٌ فمَن جمَع هذه الأنواعَ كُلَّها صارَ مِن أولياءِ اللهِ الذينَ لا خَوفٌ عليهم ولا هُم يَحزَنُون، إن كانَ رجلاً وإن كانَ أُنثى، النّساءُ المؤمناتُ على مراتِبَ مِنهُنَّ مِنَ المؤمناتِ العاصِيَات ومنهُنّ مِنَ الصّالحاتِ والصّالحاتُ مِنهُنَّ مَراتِبُ ودَرجَات مِنهُنَّ مَن وصَلْنَ إلى الدّرَجات العُليا في الوِلايَة كمَريم، هؤلاءِ يُقالُ لَهنّ الصّدّيقات، الصّدّيقاتُ مَعناهُ اللاّتي وَصَلْنَ في الوِلايَة إلى دَرجَةٍ عَاليَة، مَريمُ وفَاطمَةُ وخَديجَةُ وغَيرُهنّ وهُنَّكثيراتكهذه التي يُقالُ لها زَينَبُ بنتُ عليّ بنِ أبي طالب، بعضُ النَّاس يَقولُونَ بأنها مَدفُونَةٌ في الشّام وبَعضُ النَّاس يَقولونَ مَدفُونَةٌ بمصر، هؤلاء مِنْ أكَابرِ الوَليّات، وبينَ هؤلاء وبينَ التي في أقلّ دَرجَاتِ الوِلايةِ مَراتبُ أيضًا، كُلٌّ على حَسَبِ قِسمَةِ اللهِ تَبارك وتَعالى، اللهُ تَعالى قَسَمَ في الأزل الأرْزاقَ والأعمارَ والأخلاقَ فكُلٌّ مِنَ العِبادِ لا يتجَاوَزُ تلكَ القِسْمَةَ، مَن كتَبَ اللهُ تَبارك وتَعالى لهُ حَظًّا في ذلكَ لا بُدَّ أن يَصِلَ إليهِ لكنّ كُلاًّ منها أي مَراتبِ الوِلاية تحتاجُ إلى صَبر، تَحتاجُ إلى كَفّ النّفسِ عن المحَرَّمات وتَحتاجُ إلى تَحمُّل مَشَاقّ العباداتِ وتَحتاج إلى تَحَمُّل أذَى النَّاس، جَعلَنا اللهُ منَ الصّابِرينَ، اللهَ تَعالى يَجعَلُ لنَا حَظًّا كبِيرًا مِنَ الصَّبر،.ثم بَعضُ النَّاس الذينَ أرادَ اللهُ تَبارك وتَعالى بهِمُ الشّرَّ قَد تَمضِي علَيهِم أيامٌ وأَزمَانٌ يَكُونُونَ مُقْبِلينَ على العِبادة ثم تَصدُمُهم المصائبُ والبَلايا فيَرجِعُونَ إلى خَلفٍ بدَلَ أن يَثبُتوا على الصّبر ويتَقَدَّموا، يَرجِعُون إلى وراء، هؤلاءِ أرادَ اللهُ تَعالى بهمُ الشرَّ، لذلكَ بَعضُ النَّاسِ يَرتَأُون أن يَخطُوا خُطًى إلى الطّاعات ثم تَعتَرضُهمُ المشقّاتُ والبَلايا، كقِلَّةِ الرِّزق، بَعدَ أن كانَ رِزقُهُم واسعًا يُبتَلَونَ بقِلّةِ الرّزقِ فيَرجِعُونَ إلى الوراءِ أي يَتركُونَ النّشاطَ في العِباداتِ التي أَقبَلُوا عليها إلى العَكس، هؤلاء أُرِيدَ بهمُ الشّرّ، اللهُ تَبارك وتَعالى قالَ عن هؤلاء: ((ومِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِن أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمَأَنَّ بِه وَإِن أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وجْهِه خَسِرَ الدُّنْيَا والآخِرَة)) سورة الحج معنى هذه الآيةِ أنّ منَ النَّاسِ الذينَ أُرِيْدَ بهم الشّرّ، أنَّهم يَدخُلُونَ في الإسلام وهُم في حَالةِ يُسرٍ ونِعمَةٍ ثم تُصِيبُهمْ مَصائبَ وهؤلاءِ قَبلَ أن تُصِيبَهُمُ المصَائبُ يقُولونَ هذَا الدِّينُ حَقٌّ لأنّنا دخَلنا فيه فلَقِينا رَخَاءً وسَعَةً ثم بَعدَ أن تُصِيبَهمُ المصائبُ يَنقَلِبُونَ فيَقُولونَ هذَا الدِّينُ ما نفَعَنا هذَا مِن شؤم هذَا الدِّين هذَا الدِّينُ لا خَيرَ فيه لو كانَ فيهِ خَيرٌ ما أصَابَتْنا هذه البَلايا هذَا الجَدْبُ هذَا الْمَحْقُ هذه القِلّة، هؤلاءِ ذَمَّهُمُ اللهُ تَعالى في القرآنِ في هذه الآية، فالعَبدُ إذا ثبَتَ على صِفَةِ الصّبرِ أي آمَن باللهِ ورسُولِه ولَزِمَ طَاعةَ اللهِ تَعالى في الرّخاءِ والشّدّةِ ولم يتَحوَّل ولم يَسُقهُ الرّخاءُ إلى الفُسُوقِ لمّا يَكثُر الرّزقُ عليه لا يَذهَبُ إلى الفجُور، ثم إنْ أصَابَهُ قِلّةٌ وفَاقَةٌ لا يَذهَب إلى تَركِ فَرائضِ الله لا يَرجِعُ إلى الوراء بل يَثبُت بالمقَام الذي كانَ فيه، لا يَثني عَزمَه عن مُلازمَةِ طَاعةِ اللهِ تَعالى، هذهِ الحَالةُ إلى هذَا الوقتِ مَوجُودَةٌ، هذه حصَلَت في زمَنِ الرَّسولِ، أُنَاسٌ أَسْلَمُوا ثمّ رأَوا رَخاءً المطرُ صارَ يَنـزلُ لهم بكَثرَة ومَواشِيهِم تَنْعَمُ فَتَسْمَنُ فيَكثُر لهم الحليبُ والسّمْنُ ثم في بعضِ السّنِين يُصَابُونَ بالجَدْب والمَحْق فيَقولونَ هذَا الدِّينُ ما وافقَنا، هذَا الدِّينُ شؤمٌ علَينا لأنّهُ أصَابَتْنا هذه المصائبُ بعدَ أن دخَلنا فيه، هذَا حصَلَ في زمَنِ الرَّسولِ مِنَ الأعراب، أُناسٌ مِن أهلِ البَدْو “الذينَ هم” هؤلاء العَرَب الرُّحَّل، حصَلَ مِن هؤلاء، ولم يَحصُل مِن أهلِ المدينة، إنما هذَا حصَلَ لأُنَاسٍ دَخَلُوا في الإسلام وكانوا مِن أهلِ البَادِيَة. البَاديَةُ هيَ التي سُكّانها يتَنقّلُون معَ المطَر، يتَنقّلُون إلى حيثُ يُوجَدُ مَرعًى للبَهائم، لا يَلزَمُونَ مَكانًا واحدًا، وهم يَتبَعُونَ المطَر والمراعِي حتّى تَشبَعَ مَواشِيْهِم فيَكثُر لهمُ الحَليبُ والسَّمنُ، هؤلاءِ يُقالُ لهم أهلُ البَادِيَة، ويُقالُ لهمُ البَدْو.”سبحانَ اللهِ والحَمْدُ لله ربّ العالمين”