الحمدلله تعالى وبعد، فبالنسبة لما ذكره بعض الناس من استدلالات في مسألة وصف الثوب لحجم العورة وشكلها، ليس اللون وظهوره من تحت الثوب الرقيق، فالمسألة ليس فيها نص صريح من الكتاب ولا من السنة وهما منزع استدلال الفقهاء، ولا هي مسألة مجمع عليها إذ لو كانت مجمعاً عليها لأحال المانع من ذلك إلى الإجماع ولم يضطر إلى الاستدلال بآثار هو نفسه يقول إنها ضعيفة، هذا أولاً.أما الشيخ عبدالله الهرري فقد مشى على طريقة الفقهاء المنصفين في حكاية هذه المسألة وذكر نقول أهل العلم فيها، وليس في كلامه رحمه الله أنه أمر النساء بلبس السراويل الضيقة ولا أنه استحسن ذلك منهن، بل كلامه وكلام تلامذته في النهي عن ذلك وشبهه منتشر مشهور لا ينكره إلا مكابر.كما أنه رحمه الله لم يأت بقول لم يسبقه إليه الفقهاء، ولكنه ناقل لقول من تقدموا من أهل العلم ممن سبقوه بمئات السنين في هذه المسألة كما هو واضح في مؤلفاته، وهو منصوص الإمام أحمد رضي الله عنه كما سيأتي، وهو نص فقهاء الشافعية كذلك وسيأتي من كلام الشيخ زكريا الأنصاري في شرحه على روض الطالب المعروف بأسنى المطالب، وكذا غيره نصّ عليها من فقهاء حنابلة ومالكية وسيأتي إن شاء الله.ثم عورة المرأة كلّ بدنها سوى الوجه والكفين، فأين يجد العاقل امرأة لا يصف ثوبها حجم بعض عورتها، فليست العورة منها الفخذين والساقين فحسب، ولكن مع استثناء الوجه والكفين، فإن جسمها كله عورة، صدرها وظهرها عورة، وتكاد لا تجد امرأة لا يحدد ثوبها بعض ذلك منها، فكيف الجواب عن هذا، وأين من يحرمه؟ فإنك لا تجد على مرّ التاريخ من تلبس من الثياب من يمنع من تحديد بعض عورتها.ثم العاقل يعرف أن العورة عورة سواء من الرجل أو المرأة، وفي تحريم ذلك تحريم على الصنفين وأمام الصنفين، ومن يحرّم لا يجد دليلاً على التفريق في ذلك، يقول للرجل أمام الرجل يجوز أما أمام المرأة فلا، بل هناك ما يدلّ على عكس ما يقول في الحالين، ويأتيان متعاقبين.فقد روى البخاري في صحيحه عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ صَلَّى جَابِر بن عبدالله رضي الله عنه فِى إِزَارٍ قَدْ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ وَثِيَابُهُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمِشْجَبِ، قَالَ لَهُ قَائِلٌ تُصَلِّي فِى إِزَارٍ وَاحِدٍ (كأن القائل ينكر ذلك)، فَقَالَ (أي جرير) إِنَّمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ لِيَرَانِي أَحْمَقُ مِثْلُكَ، وَأَيُّنَا كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الحافظ ابن حجر في شرحه: والحمق وضع الشيء فى غير موضعه مع العلم بقبحه، قاله فى النهاية. والغرض بيان جواز الصلاة فى الثوب الواحد ولو كانت الصلاة فى الثوبين أفضل، فكأنه قال: صنعته عمداً لبيان الجواز إما ليقتدى بي الجاهل ابتداء أو ينكر عليّ فأعلمه أن ذلك جائز. وإنما أغلظ لهم فى الخطاب زجراً عن الإنكار على العلماء، وليحثهم على البحث عن الأمور الشرعية. قوله: (وأيّنا كان له) أي كان أكثرنا فى عهده صلى الله عليه وسلم لا يملك إلا الثوب الواحد، ومع ذلك فلم يكلف تحصيل ثوب ثان ليصلي فيه، فدل على الجواز. وعقب المصنف حديثه هذا بالرواية الأخرى المصرحة بأن ذلك وقع من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ليكون بيان الجواز به أوقع في النفس، لكونه أصرح فى الرفع من الذي قبله. انتهى كلام ابن حجر. وكلام جرير رضي الله عنه واضح في أن أكثر الصحابة كانوا يصلون في ثوب واحد، بل هو فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم كما صرح البخاري، ومما يعرف من صفة الصلاة انه لا بد لمن ركع وسجد ان يصف ثوبه حجم بعض عورته، ولم يرد أن الصحابة كانوا يتناهون عن النظر بعضهم إلى بعض حين سجودهم وركوعهم صفوفاً خلفه صلى الله عليه وسلم.بل اكثر من ذلك، فلم يقل أحد بعدم صحة من صلى لابساً ثوباً ضيقاً يحكي حجم عورته وحده أو أمام النساء، ففي مسند أحمد رحمه الله ما نصه: عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: “يا مَعْشَرَ النِّسَاءِ مَنْ كَانَ مِنْكُنَّ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا تَرْفَعْ رَأْسَها حَتَّى يَرْفَعَ الإمامُ رَأْسَهُ” مِن ضِيقِ ثِيابِ الرِّجالِ، هذا كلام أسماء بنت أبي بكر، وأين من يقول انا أفقه من أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.فدل ذلك على ان الصحابة كانت ثيابهم ضيّقة والوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينههم عن إتيان المساجد، ولا هو نهى النساء عن إتيانها مع ضيق ملابس الرجال، ولم يقل للرجال لم تصح صلاتكم في ثيابكم الضيقة، وكان يمكنهم الصلاة في بيوتهم لمن كان فقيراً لا يجد إلا ثوباً ضيقاً، فدل ذلك بوضوح على صحة صلاة الرجال في الثوب الضيق بلا تحريم، ولا دليل على التفريق في ذلك فالعورة عورة سواء بالنسبة للرجل او المرأة، وليس في نص الشارع عدم صحة الصلاة في الثوب الضيق للمرأة دون الرجل.ومن كلام الفقهاء في ذلك:قال علاء الدين المرداوي الحنبلي في كتابه الإنصاف (1/449): “فأما إن كان (أي الساتر) يستر اللون ويصف الخلقة لم يضرّ، قال الأصحاب لا يضرّ إذا وصف التقاطيع ولا بأس بذلك نصَّ عليه (أي أحمد) لمشقة الاحتراز” اهـ.وقال فيه أيضاً (1/ 471): “فأما المرأة فيكره الشدّ فوق ثيابها لئلا يحكي حجم أعضائها وبدنها انتهى. قال ابن تميم وغيره: ويكره للمرأة في الصلاة شدّ وسطها بمنديل ومنطقة ونحوهما” اهـ. (كره ولم يقل حرام).وقال زكريا الأنصاري في كتابه أسنى المطالب شرح روض الطالب (1/ 176): “ولا يضرّها بعد سترها اللون أن تحكي الحجم، لكنه للمرأة مكروه وللرجل خلاف الأولى قاله الماوردي وغيره” اهـ. وذكر مثل هذا ابن حجر الهيتمي في المنهاج القويم (ص/ 182) والنووي في شرح المجموع (3/ 170).وقال محمد عليش المالكي في منح الجليل (1/ 226): ” وكُرِه – بضم فكسـر- لباس مُحَدَّدٌ- بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الدال مُثَقَّلَةً- أي مظهر حدّ العورة لرقته أو ضيقه وإحاطته، أو باحتزام عليه ولو بغير صلاة لإخلاله بالمروءة ومخالفته لزيّ السلف” اهـ.والله أعلم وأحكم، دعاكم لمن كتبه ونشره بالعافية في الدين والدنيا ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم، الله يعطينا ذلك، آمين