الحمد لله ربّ العالَمِين وصلَّى اللهُ وسلَّم على سيدنا محمَّد وعلى ءالِه وصحبه الطيّبين الطاهرين.
قال ربنا عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم: ﴿فَلَوْ لَا نَفَرَ مِنْ كُلِ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾.
في هذه الآية إشارة إلى علم التوحيد بقوله تعالى ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ﴾، وإشارة إلى علم الفروع ببقية الآية، وقد قدَّم الله تعالى ما فيه إشارة إلى علم التوحيد على ما فيه إشارة إلى علم الفروع، فعَلِمْنا من ذلك أنه أولى من علم الفروع وهو أفضل العلوم وأعلاها وأشرفها.
علم التوحيد هو علم يفيد معرفةَ الله على ما يليق به ومعرفة رسوله على ما يليق به، وتنزيهَ الله عما لا يجوز عليه، وتبرئةَ الأنبياء عما لا يليق بهم، أو يُقال: هو العلم الذي يعرف به ما يجوز على الله وما يليق به وما لا يجوز عليه وما يجب له من أن يعرف في حقه سبحانه وتعالى. قال الإمام الجنيد البغدادي سيد الطائفة الصوفية: التوحيد إفراد القديم من المُحدث أي أنَّ الله الموصوفَ بالقِدَمِ لا يُشبِهُ المخلوق الذي لا يكون إلا حادِثًا.
فالذي يعتقدُ أنَّ اللهَ جسمٌ هذا ما عَرَفَ اللهَ، كيفَ يكونُ اللهُ جِسْمًا وهو الذي خَلَقَ الجسم؟! لو كانَ جِسمًا ما استطاعَ أنْ يَخلُقَ شَيئًا مِنْ هذا العالَم، نَحنُ لا نستطيعُ أن نخلقَ ذُبَابَة ولا نستطيعُ أن نَخلُقَ لأنفُسِنا أَنْمُلَةً لأننا جِسم، اللهُ لو كانَ جِسمًا ما استطاعَ أنْ يَخلُقَ الناسَ والنباتَ ولا شيئًا مِنَ العالَم، اللهُ ليسَ جِسمًا لا يُشبِهُ الضوءَ ولا الرِّيحَ ولا الإنسانَ لأنه خَالِقُ هذه الأشياءِ كُلِّها، نَحن وجدنَا أنفسَنا على هذهِ الخِلقَةِ نحن جِسْمُنا مُركّبٌ لذلك يصحُّ في حَقِّنا الجلوس لأنَّ الجالِسَ مركَّبٌ له نصفٌ أعلى ونِصْفٌ أسفل، اللهُ الذي خلَقَنا ليس مُركّبـًا ليس جِسْمًا الجسمُ لا يخلقُ الجسمَ؛ هذه قاعدةٌ ودليلٌ على أنَّ اللهَ لا يُشبِهُ شَيئًا.
الريحُ والروحُ والضوءُ أجسامٌ لطيفةٌ، والسّمٰواتُ والعرشُ والأَرَضُون والإنسانُ أجسَامٌ كثيفةٌ، اللهُ لا هو كالجِسمِ اللّطيفِ ولا هو كالجسمِ الكثيف، ثم الجِسمُ إنْ كانَ كثيفًا وإن كانَ لطيفًا لابدّ له مِنْ مكانٍ يَحويهِ، ضوءُ الشّمسِ يَحُلُّ في قِسمٍ والظلامُ يَحُلُّ في قِسمٍ وهكذا يتعاقبانِ، اللهُ تعالى لا يَحُلُّ في مكانٍ لأنه ليسَ جِسمًا، نَحنُ لا نعلمُ حقيقةَ اللهِ إنما نعلَمُ بالدَّليلِ النّقليّ والعقليِّ أنه موجودٌ لا يُشْبِهُ شيئًا، وجودُهُ لا ابتداءَ له لأنَّ الذي لوجودِهِ ابتداء يَحتاجُ إلى مَنْ يُخرِجُهُ مِنَ العَدَمِ فيجعلُهُ موجودًا، لذلكَ خالِقُ العالَمِ الله ليسَ لوجودِهِ ابتداءٌ، لو كانَ لوجودِهِ ابتداءٌ لاحتاجَ لِمَن أخرجَهُ مِنَ العدمِ فجعَلَهُ موجودًا أما ما سِوى الله كلٌّ لوجودِهِ ابتداء. هذا الفراغُ ما كانَ ثُمَّ خلَقَهُ الله، في الأزلِ لَم يكن شىءٌ إلا الله ثم اللهُ أوجَدَ الأماكِنَ والجهاتِ فهو موجودٌ بلا مكان. الذي يعتقدُ أنَّ اللهَ حالٌّ في جِهَةِ فوقٍ يكون جَعَلَ لله مَكانًا فهو كافِر والذي يعتقدُ أنَّ اللهَ حلَّ في كُلِّ مكانٍ بذاتِهِ فهو كافر. الاعتقادُ الصَّحيح اعتقادُ أهلِ السنةِ الصّحابَةِ ومَنْ جاءَ بعدَهُم أنَّ اللهَ موجودٌ بلا مكانٍ لأنه ليسَ جِسمًا.
بَعْضُ الجُهَال يَعْمَلُون الذِّكْر يَقُولُونَ “يَا حَاضِر، يَا حَاضِر” مَن يَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَكُون قَرِيبًا بِالمَسَافَة يَكْفُر، مَن اعْتَقَدَ في الله أَنَّهُ قَرِيب مِنْهُ بِالمَسَافَة، كَمَا أَنَا قَرِيب مِنْكَ يَكْفُر. قُربُهُ لَيْسَ بِالمَسَافَة، كُلُّ هَذَا يُفْهَم مِن هَذِهِ الآيَة، ءَايَة القُرْءَان: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ ﴾ [سورة الشُّورَى/11].
ومِن أهمِّ أُمورِ عِلم التّوحيد معرفةُ أنّ الله تباركَ وتعالى هو المنفردُ بالخَلق، فكلُّ ما يحصُل مِنَ العَبدِ مِن حَركةٍ وسكون ونيةٍ وقَصدٍ فالله خالقُه في العبدِ، العبدُ ليسَ إلا مُكتَسِبًا يَكتَسِبُ هذه الحرَكات والسّكَنات وهذه النّوايا القلبية، هذا المعتقدُ مَن حَادَ عنه ضلَّ وهَلكَ وإنْ زعَم أنّه مُسلِم، فالمعتزلةُ حَادُوا عن هذا المعتَقَدِ، يَعْتَقِدونَ بأنّ الله تعالى خلقَهُم وأعطاهُمُ القُدرةَ على حَركاتهِم وسكَناتهِم وهم يخلقونَ بهذه القُدرةِ التي أعطاهُمُ الله حَركاتهم وسكناتهم ونوَاياهُم إنْ كانَت خَيرًا وإنْ كانت شَرًّا، إن كانَت إيمانًا وإنْ كانت كُفرًا، هؤلاء يدّعونَ أنهم خِيْرةُ المسلمين، كانوا فيما مَضى كثيرين.
ومِن أهمّ المسائِل أيضًا معرفةُ أنّ اللهُ تعالى له كَلامٌ واحدٌ بِهذا الكَلام يُحاسِبُ العبادَ فيفهمونَ السؤالَ: ألَمْ أُعطِكَ كذا، لِم فَعلتَ كذا، لِمَ لَمْ تفعل كذا. وليسَ كلامُهُ حَرفًا وصَوتًا، لو كانَ اللهُ يتكلّمُ بالحرفِ والصوتِ يقرأُ كما نَحنُ نقرأُ “بسمِ اللهِ الرّحمٰنِ الرّحيم” لكانَ فيهِ تَعَاقُبٌ أي يَوجَد مِنه جُزءٌ من الحُروف ثمّ جُزْءُ ثمّ جُزءٌ وكذا، وهذا لا يجوزُ على الله إنما هذا يكون في المَخلُوق. إبليس يُمكنُ عُمرُهُ مِائةُ ألفِ سنةٍ أو أقلُّ أو أكثرُ، اللهُ أعلمُ، هذا لو كانَ سؤالُهُ بالحرفِ والصَّوتِ لأخذَ وَقتًا طويلاً، واللهُ يقولُ عن نفسِهِ: ﴿وهو أسرع الحاسبين﴾ فلو كانَ حسابُهُ للعِبادِ بالحرفِ والصَّوتِ لكانَ أبطَأَ الحاسبين لَمْ يكُن أسرَعَ الحاسبين، والجِنُّ أكثرُ مِنّا وأعمَارُهُم أطولُ مِنْ أعمَارِنا في العادَةِ فلو كان حسابُهُم بالحرفِ والصَّوتِ لأخذَ وقتًا طويلاً.
أَمَّا القُرْآن الَّذِي نَحْنُ نَقْرَأُهُ فَيُقَال لَهُ كَلاَمُ الله لأِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ كَلاَمِ الله الَّذِي لَيْسَ حَرْفًا وَلاَ صَوْتًا وَهَذَا اللَّفْظُ الَّذِي نَقْرَأُهُ جِبْرِيل أَخَذَهُ مِنَ اللَّوْحِ المَحْفُوظ مَكْتُوبًا مَا كَتَبَهُ أَحَدٌ إنَّمَا كَانَ القَلَم جَرَى بِقُدْرَةِ الله عَلَى اللَّوْحِ وَكَتَبَهُ، كَتَبَهُ القَلَم، ثُمَّ جِبْرِيل أَخَذَهُ بِأَمْرِ الله وَقَرَأَهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّد، جِبْرِيل أَنْزَلَهُ مِنَ اللَّوْحِ المَحْفُوظ. كَذَلِكَ الإنْجِيل الأَصْلِي، الإنْجِيل الحَقِيقِيّ وَالتَّوْرَاة الحَقِيقِيَّة وَالزَّبُور الحَقِيقِيّ كُلُّ هَؤُلاَءِ جِبْرِيل أَنْزَلَهُمْ بِأَمْرِ الله عَلَى هَؤُلاَءِ الأنْبِيَاء، لَيْسَ الله قَرَأَهُ كَمَا نَحْنُ نَقْرَأَهُ. يُقَالَ لَهُ كَلاَمُ الله لاَ عَلَى مَعْنى أَنَّ الله قَرَأَهُ بِالحُرُوف وَالصَّوْت.
هذا العِلم اعتنى العلماء به تدريسًا وتحفيظًا وتفهيمًا حتى قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: “أَحْكَمْنا هذا قَبْلَ ذاكَ” أي أَتْقَنّا عِلْمَ التوحيد قبل فروع الفقه. لذلك ينبغي الاعتناء بهذا العِلم قبل غيره، ينبغي التمكّن بعلم التوحيد قبل التعمّق بالفروع، وينبغي معرفة الكُفريّات للحذر منها وللتحذير منها. فلو تَلَقَّى المرءُ هذا العِلمَ مِن أفواهِ الثِقاةِ وفَهِمَه، ثُمّ قَعَد في بَيتِه يُقِيمُ الليل ويصوم النهار ويقرأ القرءانَ ويذكُر الله تعالى ءالاف المرّات في اليوم إلى أن يأتيه الموت، ماذا يكون قد فَعَل بشأن نشر التوحيد والتحذير من الكُفر؟!
هل يَتْرُك العاقِلُ نَشر علم التوحيد بين الناس والتحذيرَ من أهل الضلال وهو قادِرٌ على التحذير من الكُفر؟! هل يَقول العاقلُ: أنا لا أُجالِسُ الناسَ ولا أُخالِطُهم ولا أكلّهم في أمور الدِّين، فيترك بذلك نشر التوحيد؟!
حُكِيَ أنّ الأستاذَ أبا إسحاق الأسفراييني قال للعبّاد المنقَطِعون عن الناس الذين يَسكُنون جبل لبنان: يا أَكَلَة الحَشِيش – أي المنقطِعون عن الملذّات – تَرَكْتُم أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى اللـه عليه وسلم في أَيْدِى الـمُبْتَدِعَةِ واشْتَغَلْتُم ههُنا بأَكْلِ الحَشِيشِ؟!! (أي أنتُم هنا تَزْهَدون وتَنْقَطِعون عن الناس تَتركُونَهم لأهل البِدَع يَنشرون الضلال بينهم(.
فينبغي دَومًا استحضار قول الله تعالى: ﴿كُنتم خَيْرَ أُمّةٍ أُخرِجَت للناسِ تَأمرونَ بالمعروفِ وتَنْهَونَ عَن المنكر﴾ وينبغي صَرْف الهمّة لتحصيل هذا العِلم وتعليمِه للناس وهو مُقَدَّم على غيره من العلوم لأن العبادة لا تَصِحُّ إلا بعد معرفة المعبود كما قال الغزالي رحمه الله تعالى، وذلك لأنه من يشبّه الله تعالى بشىءٍ ما لم تَصِحَّ عبادتُه لأنه يَعْبُدُ شيئًا تَخَيَّلَهُ وَتَوَهَّمَهُ في مخيِّلَتِه وأوهامه، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾، قال سيدنا علي رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: “عَلِّمُوا أَنْفُسَكُم وأَهْلِيكُم الخَيْرَ” رَواهُ الحَاكِمُ في المستدرك يعنِي أنَّ حِفْظَ النفس والأهلِ مِن النار التي عَظَّم الله أَمْرَها يكون بِتَعَلُّم الأمور
الدينية أي معرفة ما فَرَضَ الله فِعْلَه أو اجْتِنابَه أي الواجبات والمحرمات وذلك كي لا يقع الشخصُ في عِبادةٍ فاسِدةٍ، وَبِتَعَلُّمِ ما يَجوز اعتقادُه وما لا يَجُوز وذلك كي لا يقع الشخص في التشبيه والكُفر والضلال.
نَحْمَد الله تَعالى أن يَسَّرَ لَنا من يُعَلِّمنا هذا العِلمَ العظيمَ ونسأله الثباتَ على عقيدة أهل الحق المؤيَّدة بالكتاب والسنة والأدلة العقلية، وسبحان الله والحمد لله رب العالمين، والله تَعالى أَعْلَمُ.