هذا تفسير أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما لقول الله تعالى “ثم دنا فتدلى” (سورة النجم)،
ففي صحيح البخاري رحمه الله عَنِ الشَّعْبِيّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها: فَأَيْنَ قَوْلُهُ “ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى”، قَالَتْ ذَاكَ جِبْرِيلُ كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ فِي صُورَتِهِ الَّتِى هِيَ صُورَتُهُ فَسَدَّ الأُفُقَ.
وفي صحيح البخاري كذلك: عَنْ الشَّيْبَانِي قَالَ سَأَلْتُ زِرًّا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى “فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى”، قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ (يعني ابن مسعود رضي الله عنه وهو من فقهاء الصحابة) أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ. قال في فتح الباري: والحاصل أن ابن مسعود كان يذهب فى ذلك إلى أن الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل كما ذهبت إلى ذلك عائشة. انتهى من كلام ابن حجر.
ويقول الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره: ثم قال تعالى: “ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى” وفيه وجوه مشهورة أحدها: أن جبريل دنا من النبي صلى الله عليه وسلّم أي بعدما مدّ جناحه وهو بالأفق، عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها، وقرُب من النبي صلى الله عليه وسلّم.. الثالث: وهو ضعيف سخيف، وهو أن المراد منه هو ربه تعالى وهو مذهب القائلين بالجهة والمكان، اللّهم إلا أن يريد القرب بالمنزلة، وعلى هذا يكون فيه (أي من التأويل) ما في قوله صلى الله عليه وسلّم حكاية عن ربه تعالى “ومن تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن مشى إليّ أتيته هرولة” إشارة إلى المعنى المجازي (وليس المكاني الحسّي)”.
وهو قريب مما ذكره القاضي عياض المالكي فى الشفا من أن إضافة الدنو والقرب إلى الله تعالى أو من الله ليس دنو مكان ولا قرب زمان، وإنما هو بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إبانة لعظيم منزلته وشريف رتبته، وبالنسبة إلى الله عز وجل تأنيس لنبيه وإكرام له. ويتأول فيه ما قالوه فى حديث “ينزل ربنا إلى السماء” أي رحمته أو الملك (مفرد الملائكة) بأمره فهي إضافة تشريف، وكذا فى حديث “من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً”، وهو القرب المعنوي كما سبق في كلام الرازي أعلاه.
فدلّ ما تقدّم على أن نسبة المسافة والمساحة والجهة والمكان إلى الله تعالى هو قول المشبهة المجسمة، وهو مذهب منبوذ سخيف كما قال الرازي في تفسيره.
وليكن السني على ذكر لقول الإمام الطحاوي وهو من أئمة السلف الصالح قال يمدح الله تعالى: “ولا تحويه الجهات الستّ كسائر المبتدعات” والمبتدعات بفتح الدال هي المخلوقات، فالله منزه عن الجهة كما نصّ عليه الإمام أبو حنيفة في عقائده، وكفى بكلامه حجة وهو من أعلام التابعين من السلف الصالح رضي الله عنهم.