قال الفقيه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد الهرري الشافعي الأشعري رحمه الله:
أقسَامُه أي العالم على الإجمال أعيانٌ وأعرَاضٌ.
ثم الأعيانُ قِسمَان: مُتَركّبٌ وهوَ الجِسم، وغَيرُ مُترَكّبٍ وهوَ الجَوهَر.
العالَم على قِسمَين أعيانٌ وأعراض. الأعيانُ ما قَابَل العرَض، والعرَضُ ما قابَلَ الأعيان.
ما يتَحَيّز بنَفسِه يُقالُ لهُ أعيان، فهو منَ الأعيان. وما لا يتَحيّز إلا تبَعًا لغَيره فهو عرَض كبيَاض الجسم وسوادِه، فإنّ البَياضَ والسَّوادَ لا يتَحيّزان على انفرادٍ.
أمّا الجِسم الذي هو أسودُ أو أبيَض، هذا يُقالُ لهُ عَينٌ، فهوَ مِن جملَة الأعيان.
الإنسانُ والأرضُ والسّماواتُ والماءُ والشَّجرُ والحجَرُ هذا يُقالُ لهُ عَينٌ، هذا منَ الأعيان يَدخُل في الأعيان. وأمّا ما يقُوم مِنَ الصّفاتِ بهذه الأعيان فهو الأعراضُ. النارُ منَ الأعيان وحَرارَتها منَ الأعراض.
ثم الأعيانُ قِسمانِ مُترَكّبٌ وهوَ الجِسم وغيرُ مُتركّب (وهو الجوهر الفرد).
في اصطلاح علماءِ التّوحيد يقَسّمُون الأعيانَ إلى قِسمَين جَوهَرٌ وجِسمٌ. الجوهرُ عندَهم الأصلُ وهوَ الجُزءُ الذي هو غَيرُ مُرَكَّب. الحجم الذي هو ليسَ مُركَّبا ليسَ متّصفًا
بالطول والعرَض هذا الذي يُسَمُّونَه الجوهر الفَرد أي الذي لا يَقبَل القِسمَة لقِلَّتِه لكَونِه في نهايةِ القِلَّة، يُقالُ لهُ الجَوهَرُ الفَرد. فإذا انضَمّ جَوهَرٌ إلى جَوهَرٍ صَارَ جِسمًا.
وإنما يقسّمونَ هذا التّقسيم لبَيانِ التّنزيه لأنّ مِنَ الناسِ مَن يتَوهَّم أنّ اللهَ تعالى عَينٌ غَيرُ مُرَكَّب، ومِن الناس مَن يتَوهّم أنّه عَينٌ مُرَكَّب.
أرادَ عُلماءُ التّوحيد أن يُبَيّنوا تَنزيهَ الله أي أنّ اللهَ منَزّه عن أن يكونَ مِثلَ الجَوهَر الفَرد الجزء الصّغير الذي لا يتَجزّأ لكونِه، اي الجوهر، في نهاية القِلة، أو كالعَين الذي هو كبيرٌ أو وسَط مما هو فَوقَ الجَوهَر الفَرد كالإنسان والعَرش والأرضِ والسّماء والشمس.
هذه يُقال لها أجسام، الشمسُ جِسمٌ والأرضُ جِسمٌ فيَجِبُ تَنزيهُ اللهِ عن أن يكونَ كهذا أو كهذا أو كهذا.
فجميعُ أقسَام العالم على التّفصيل ثلاثةٌ: جواهرُ وأجسَامٌ وأعراض. ثم الجَوهَر في اللُّغَة عِبارَة عن الأصل، معنى الجوهَر في اللّغة الأصل، يُقال لفلان جَوهَرٌ شَريف أي أصلٌ شَريف. في عُرف أهلِ اللّغة يقولونَ جَوهَرٌ شَريفٌ بمعنى أَصل شَريف.
الأجرام مهما صَغُرَت تقُوم بذاتها أي تتَحيّز بذاتها، بمفرَدها. أمّا العرَض لا يتَحيّز بمفرَده. الآنَ الجِسمُ الأسودُ يتَحيّز بمفرَدِه، نقولُ يقُومُ بذَاتِه أي لأنّه يتَحيّزُ بذَاتِه. أمّا العرَض فهو كسَوادِ هذا الجِسم الأسودِ وكبَياض هذا الجِسم الأبيض وحرَكة الجسم وسكُونِه، هذا يُقالُ لهُ أعراض، كالسّواد والبَياض والحركَة والسُّكون. وأمّا الجِسم فهوَ مُرَكَّب مِن جُزءين فصَاعِدًا. وعندَ الحُسّاب الجِسمُ ما لهُ طُولٌ وعَرضٌ وعُمقٌ.
والمعَوَّلُ عليهِ هوَ الأوّل، التّفسيرُ الأوّلُ هوَ الأحسَن.
وأمّا العرَض فهو في اللّغةِ اسمٌ لما لا دَوامَ لهُ. يُقال فلانٌ في عَارِض شُغلٍ أو مَرَض. وعندَ المتكَلّمين اسمٌ للصّفاتِ الثّابتَة للمُحدَثات (اي المخلوقات) كالألوان والأكوَان، الأكوانُ عندَهم ليسَ بمعنى العالم، الأكوانُ عندَهم الاجتماعُ والافتراق، الاجتماعُ والافتراقُ والحَركة والسُّكون هذا عندَهم يُقال له الأكوان، كذلكَ الطُّعُوم ونحوها. السُّكَّر جِرم، السُّكّر جِسمٌ والعَسَل جِسم ولهُ صفةٌ قائمةٌ بهِ وهيَ الحَلاوةُ. هذه الحَلاوةُ يُقالُ لها عرَض. ثم الأعرَاضُ لا شَكّ في ثبُوتها عندَ أكثَرِ العُقَلاء وهي الألوانُ كالسّوادِ والبيَاض والحمرة ونحوِها والأكوان كالحركَة والسُّكون والاجتماع والافتراق والطُّعُوم والرّوائح والعلُوم والقُدَر (جمع قدرة) والإرادَات والاعتِقادات والشُّكُوك والرُّطُوبات واليُبُوسَات وغَيرِها، والدّليلُ على ثبُوتها أنَّا نرَى جِسمًا أسودَ ثم رأيناه أبيضَ وعَينُ ذلكَ الجسم باقٍ. الجسمُ الواحدُ قَد يكونُ على صِفَةِ السَّواد ثم يتَحَوَّلُ إلى صِفةِ البَياض، هذا شَيءٌ واقِعٌ مُشَاهَد، وهذا دليل على ثبُوت الأعراض. مقصودُنا هو إثباتُ الأعراض لأنّنا بإثباتِ الأعراض نتَوصَّل إلى إثباتِ حدُوثِ الأجرام وما يَتبَعُها، نقولُ لولا أنّ الجسم حادثٌ ما يقبَل هذه الصّفات الحادثة. بما أنّه حادث قبِلَ هذه الصّفات الحادثة. ونَستَدِلّ بذلكَ على حُدوثِ العالم نُثبِت وجودَ مُحدِثه أي خالقِه وهذا هوَ المطلوب.
وإذ قد ثبتَ أنّ العالَم بأَسره ما ذكَرنا مِن الأعراض والجواهر والأجسام ولا يوجَد في العالم قِسم إلا وهو داخِلٌ تحتَ ما ذكَرنا منَ الأعراض والأعيانِ سُفلِيّا كان أو عُلويّا جمادا كان أو ناميًا نَباتا كان أو حيَوانا إذا لا واسطةَ بينَ ما يقُومُ بنَفسِه قابلا لحلُول الأعراض فيه وهو الأعيان مُتركّبة كانت أو غيرَ متركبَة، وبينَ ما لا يقوم بنفسه وهو الأعراضُ.
ثم نَحتاجُ إلى مَعرفةِ معنى القَديم (وهو الله) والمحدَث فنقول إن القديم ما لا أوّلَ لوجُودِه والمحدَث ما لوجودِه ابتداءٌ، وقيلَ المحدَث ما تأخَّر وجُودُه عن الأزليّ، وقيلَ هوَ ما لوُجُودِه أوّلٌ، وهذه العباراتُ كلُّها تُنبِئ عن مَعنًى واحِدٍ. وقَد ثبَتَ بالدّليل أنّ أجزاءَ العالم في الأصلِ قِسمانِ أعرَاضٌ وأعْيانٌ ليسَ وراءَ هَذينِ القِسمَين شَيءٌ مِن أجزاءِ العَالم. فيَجِبُ أن يُبحَث عن كلّ واحِدٍ مِنَ القِسمَين أقَدِيمٌ هوَ أم مُحدَثٌ فبَدأنا بالأعراضِ فتَأمَّلنا فيها فرأَيناها محدثةً وذلكَ لأنّا رأينا ساكنًا تَحرّك بعدَ سكُونِه وقد أقَمنا الدِّلالَة على كونِ الحركةِ والسُّكونِ عَرَضَين، وكانَ الجِسم قائمًا حينَ كانَ سَاكنًا وقَد حَدثَت فيه الحركةُ بعدَ أن لم تكن موجودةً حالَ كونِ الجِسم ساكنًا، هذه الحركةُ ما كانت فيه لما كانَ الجسم ساكنًا إنّما هيَ حدَثَت الآنَ فعَلِمنا حُدوثَها بالحِسّ والمشَاهدَة. لما نرَى الشّيءَ الذي كانَ سَاكنًا في حالِ سكُونٍ ثم تَحرّك فرأيناه في حالِ حرَكتِه علِمنا أنّ السُّكونَ والحركةَ ثَابتَان، وعِلْمُ المشَاهدَة فَوقَ سَائرِ أنواع العلُوم. والسُّكونُ كانَ مَوجُودًا وقَد انعَدم حينَ حدَثَت الحركةُ وعُلِم أنّه كانَ مُحدَثا حيثُ قَبِلَ العَدَم. السُّكونُ عرَفنا حدُوثَه لأنّه زالَ فحَلَّ مَحلّه الحركَة، فنفهَم مِن هذا ونَعرف أنّ هذا السُّكونَ ليسَ أزليّا قَديما بل حادثٌ لأنّه لو كانَ أزليّا لم يَنعَدم، لقَبُولِه العَدَم عَرفنا أنّهُ مُحدَثٌ لأنّ القَديم يستحِيلُ عليه العَدمُ، وهَذا لأنّ القَديمَ (وهو الله) واجِبُ الوجُودِ لأنّه لو لم يكن واجبَ الوجُودِ لكَانَ جَائزَ الوجُودِ أو ممتَنعَ الوجُود إذ لا قِسمَة لِما يَخطُر بالبَالِ ثبُوتُه وراءَ هذه الأقسام.
ما يَخطُر بالبال لا يَخرُج عن هذه الأقسام الثّلاثةِ وهيَ جائزةُ الوجود وواجِبُ الوجُود وممتَنعُ الوجود.
والقَديمُ (وهو الله) لا ابتداءَ لوجُودِه فهوَ واجبُ الوجُودِ لذَاتِه فثبَت أنّ الموجودَ قِسمانِ لا ثالثَ لهما، الموجودُ قِسمانِ لا ثالثَ لهما، قَديمٌ ومُحدَثٌ، مَوجودٌ قَديمٌ ومَوجُودٌ مُحدَثٌ.
عُلَماء التّوحيد لما يَذكُرونَ القَديم فهو ما لا ابتداءَ لوجُودِه، أمّا الشّيء الذي تطَاوَل عَهدُه أي مضَى عليه زمَانٌ طَويلٌ فهوَ قَديمٌ مِن حيث اللغةُ، أمّا مِن حيثُ اصطلاحُ علماءِ التّوحيد لا يقال لهُ قديم، لذلكَ لا يُطلقُونَ القَديم بهذا المعنى إلا على الله.
الجسمُ الذي نَراهُ سَاكنًا ثم يتَحرّك نَعلَم أنّ السُّكونَ حادثٌ لزَوالِه وأنّ الحركةَ التي هيَ حصَلَت بعدَ السُّكون هذه لا يَخفَى حُدوثها، فقَد علِمنا أنّ سكُونَ الجِسم والحركةَ حَادثان وبهذا عرَفنا أنّ اللهَ مُنَزّه عن هذا وعن هَذا، فإذا عُلِم هذا عُلِم كونُ السُّكونِ مُحدَثًا بهذا الاستِدلال، وعُلِمَ حدُوثُ الحركةِ بالحِسّ والمشَاهدَة. السُّكونُ عَرفنا كونَه محدَثًا بهذا الاستِدلال أي بأنّه زالَ بَعدَ أن كانَ، عَلِمنا أنّ هذا السُّكونَ الذي كانَ ثم زالَ مُحدَثٌ أي سبَقَه العَدم. كما أنّ هذه الحركةَ التي حدَثَت بعدَ ذلكَ السُّكونِ مُحدَثةٌ وكِلاهُما أي السُّكونُ والحرَكةُ مُحدَثٌ، وكذا هذا في جميعِ الأعراضِ المتعَاقبَة مِن نحوِ السّوادِ والبَياضِ والاجتِماع والافتراقِ وغَيرِها. وإذ قَد ثبَت حدُوثُ الأعراض وتقرّر، تَأمَّلنا في حالِ الأعيان فوجَدناها غيرَ خَاليةٍ عن الأعراض التي ثبَت حدُوثها بالدّليل القطعي ثم تأمّلنا فوجَدنا تعَرّيها عن الأعراض وخُلُوَّها عنها ممتَنِعًا مستَحيلا، إما أن تكونَ سَاكنةً وإمّا أن تكونَ متَحركةً. فما وجَدناه ساكنا ولم نرَه متَحركًا نقولُ الأعيانُ التي رأيناها ساكنةً ثم شاهَدنا عليها الحركةَ دليلٌ على أنّ هذا العَينَ الذي لم نَره متَحركا سكونُه حادثٌ ليسَ قَديما أزليا قياسًا على الذي شاهَدنا. كُلُّ هذا تَمهيدٌ لإثباتِ أزليّةِ اللهِ وحُدوثِ العالَم وأنّ هذا العالَم أحدَثَه هذا اللهُ الأزلي الذي لا ابتداءَ لوجُودِه.
ما حَدَث شَيء مِن العالم إلا بإحداثِ هذا الأزليّ القَديم، كلُّ هذا تمهيدٌ لهذا، لأنّ هذا أصلٌ عظِيم، لذلكَ أهلُ اليَمن لما سأَلوا الرّسولَ فقالوا له جئناكَ لنتَفقّهَ في الدّين، ولنَسألَك عن بَدء هذا الأمر أي عن أوّل العالم قال لهم كانَ اللهُ ولم يكن شَيءٌ غَيرُه وكانَ عَرشُه على الماء، أي أنّ اللهَ أزليٌّ لا ابتداءَ لهُ، وأنّ أوّلَ ما حَدَث مِنَ العالم الماءُ والعَرش، كلّ هذا شَرح لما عُلِمَ مِن هذا اللفظِ النّبَوي الموجَز.
انتهى كلام شيخنا رحمه الله.