قال الفقيه المحدث عبدالله بن محمد الهرري الشافعي الأشعري رحمه الله:
إنّ الإيمان بالقدر كلِّه خيره وشرِّه موقِعُه في الدّين عظيم، وذلك لأنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أكَّد أمره فوق ما ورد في النصوص القرآنية، ثم أصحاب رسول الله أعلامُهُم كسيّدنا عمر وسيدنا عليّ بن أبي طالب وعِمران بن الحصين رضي الله عنهم ثم أعلام التّابعين كالإمام الحسن البصريِّ ومن تبع هؤلاء بإحسان، كانوا يعظِّمون أمر الإيمان بالقَدَر، وكانوا لا يثبتون الإيمان لمن خالف في ذلك اي لا يعتبرونه مسلماً. كانوا لا يفرّقون في أنّ ما يحصُل في الدنيا من أعيان الأشياء اي أجرامها وأعمالها حركاتها وسكناتها كلُّ ذلك بخلق الله تعالى ومشيئته وتقديره، لا يفرّقون بين ما يعمل الإنسان من خير وما يعملُه من شرٍّ في أنَّ كلاًّ واقعٌ بتقدير الله وعلمه ومشيئته وتكوينه.
وقد ذكَرنَا فيما قبل ذلك أنّ أميرَ المؤمنين عمر رضي الله عنه خطبَ بالجابِيَة وهي أرضٌ من الشام، وكان عنده رجلٌ من أهل الذِّمّة عجميٌ فحمدَ اللهَ عُمَرُ (عمر هو من حمد الله، وهذا من باب تأخير الفاعل عن المفعول)، وأثنى عليه وقال (اي عمر): من يهد الله فلا مُضِلَّ له ومن يُضلِل فلا هادي له، فهذا العجميّ الكافر عرَف معنى هذه الجملة ومن يضلل فلا هادي له فاستنكرها بلغته فقال بلغته إنّ الله لا يُضِلُّ أحَداً، فقال عمر للتَّرجُمان ما يقول هذا؟ قال له إنّه يقول إنّ الله لا يُضِلّ أحداً، فقال عمر رضي الله عنه كذبَت يا عَدُوّ الله ولولا أنَّك من أهل الذّمّةِ لضربتُ عُنقَكَ، هو أضَلّكَ وهو يدخلُكَ النَّار إن شاء.
قول عمرَ رضي الله عنه هو أضَلك دليلٌ على ما هو معتقد المسلمين الصحابةِ ومن تبعهُم، أنّ الله تعالى هو الذي يخلُق الاهتداء في قلوب من شاء من عباده فيجعَلُهم مؤمنين، ويخلُق الضّلالة في قلب من شاء من عباده فيجعلُهم ضالّين كافرين، وهم في ذلك لهم اختيار. فقَولُ عمر رضي الله عنه هو أضلَّك تصريحٌ بالغ بأن الله هو خالق الضّلالة في الإنسان الذي هو ضال وإن كان للإنسان في ذلك اكتسابٌ وعملٌ، لكنه (اي الكسب للعبد) بمشيئة الله الأزلية وخلق الله تعالى في قلبه هذه الضلالة، هذه العبارة صريحةٌ لا تَقبَلُ تأويلاً، قال لهذا الكافر “هو أضلَّكَ وهو يدخِلُكَ النّار إن شاء” وإنما قال (عمر) إن شاء (اي الله) لأنَّه لا يدري هل هذا ممّن سَبَقَ له في علم الله ومشيئته أنّه سيُسلم ويموت على الإيمان والتقوى أو ممَّن كتبَ اللهُ وشاء وعلم أنّه يموت على ضلالته فيكونُ من أهل النار، لذلك قال إن شاء، وذلك لأن الإنسان أربَعَةُ أقسَام قِسمٌ يحيَونَ مؤمنين ويعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين ويُبعثون مؤمنين، وقسم يحيَون كافرين ويعيشون كافرين ويموتون كافرين ويُبعثون كافرين، وقسمٌ يحيون مؤمنين ويعيشون مؤمنين ثمّ يموتون كافرين ويبعثون كافرين، وقسم يحيَونَ كافرين ويعيشون كافرين ثم يموتون مؤمنين ويُبعثون مؤمنين، البشَرُ لا يخرجونَ عن هذه الأقسام الأربعة. فبما أنّه قد يعيش الإنسان دهرًا من عمره على الكفر ثم يُسلم، ويكون إسلامُه حسنًا، فيُختَم له بالإيمان والسعادة، لذلك عمر لم يجزم بقوله ويدخلك النار بل علّقهُ بقوله إن شاء، معناه إن شاء (اي الله) أن تموتَ على حالك هذا، فإنّك لا بدّ أن تدخل النار التي أعدّها الله تعالى دارَ خلودٍ أبديٍّ للكافرين، وهذا أثر ثابت عن سيدنا عمر رضي الله عنه