قال شيخنا عبدالله بن محمد الهرري رحمه الله:
أمّا قولُ (الإمام أبي جعفر) الطّحَاوي في افتِتاح العَقائد هذا ذِكرُ بيَان السُّنّة والجماعة فإنما قال ذلك لقوله تَعالى لنَبِيّه صلواتُ الله عليه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} فالسُّنّة عِبارَةٌ عن الطّريقةِ والملّةِ التي أمَر اللهُ تعالى رسولُه صلى الله عليه وسلم بالكَونِ عليها وعلى حقيقتِها قامَت الحجَجُ الواضِحَاتُ والبَراهينُ القَاطِعَاتُ وذلكَ معنى قولِه تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ} معناه أنّ كلَّ ما جاء به الإسلام لا يَرُدُّه العقلُ الصّحيح بل يؤيّدُه العقلُ الصحيحُ وذلكَ معنى قولِه تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ} أي أنا على عِلم وبَيانٍ وحُجّةٍ قاطِعَةٍ وبُرهَان، المعنى أنّ الذي أدعُوكُم إليه شَيءٌ أنا أعلَمُ صِحّتَه وحقِيقتَه وقامَت عليهِ البراهينُ العقليّةُ.
وأمّا قوله رحمه الله والجماعة فهم الذينَ اتّبَعوه على مِلّتِه ودانُوا بها ودَعَوا سائرَ الأمم إليها حتى صارَ إجماعُه حُجّةً مِن حُجَج الله تبارك وتعالى مُوجِبَة للعِلم قاطِعَة.
أمّا قولُ فقهاءِ الملّة رحمهم الله نقولُ في توحِيدِ الله معتقدِين بتوفيق اللهِ لأنّ الوصولَ إلى توفيق الله يكونُ بتَوفِيق الله وهدايتِه وهو مذهَب أهلِ السُّنّة والجماعة على ما قالَ الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي إلى توفيقِنا وهِدايَتِنا، أي والذين جَاهدُوا فينا نُيَسّر لهم عمَلَ البِرّ، هذا معناه، وقال تعالى: {يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}.
أما قولهم معتقدينَ فإنما قالوا ذلكَ نَفيًا للنّفاق وتحقيقًا للإيمان لأنّ النّفاقَ يجتَمع مع الاعتراف اللّفظيّ لكن لا يكونُ مُقتَرِنًا بالاعتراف القَلبيّ على وَجْه الجزم، إذ الإيمانُ هوَ التّصدِيق والاعتقادُ، الإيمانُ ليسَ مجَرَّد التّصديق بل التّصديقُ الذي يَقتَرن به الاعتقادُ والعَمَل، أمّا العمَلُ للكَمَال ليسَ لأصلِ حصُولِه، مَن اعتقَد أنّ اللهَ واحِدٌ لا يُشبِه شَيئًا وأنّه لا يَستَحِقُّ العبادةَ أحَدٌ غَيرُه وجَزم بذلك ولم يكن مَعه ترَدُّدٌ ألبَتّةَ وصَدّق وأَيقَن واعتقَد أنّ محمّدًا رسولُه ثم لم يَعمَل مِن أعمالٍ غَيرَ أنّه تَشهّد وكانَ قبلَ ذلكَ غَيرَ مُسلِم، تشَهّد مرّةً واحِدَةً ولم يَعمَل لم يُصَلّ ولم يُزكّ ولم يَصم ولا عمِلَ شَيئًا لكنّه لا يَعمَلُ عَملا يُعَدُّ تَكذيبًا لله ورسوله مِنَ الأفعال كدَوس المصحَف عَمدًا أو رَميِه في القَاذُورَة. يتَجنَّب هذه الكفرياتِ كُلَّها لكن لا يأتي بالأعمال، لا يأتي بالفرائض، لكن هوَ مُوقِنٌ ما فيهِ ترَدُّدٌ لكن غلبَه التّقصيرُ في العَمل، هذا لا يَنفِي أصلَ الإيمان، أصلَ التّصديق، التّصديقُ بَعدُ مَوجُود، والاعتقادُ بعدُ مَوجُودٌ، إنما الذي نقَصَه هوَ العَمل، وتَركُ العَملِ لا يُذهِبُ أصلَ الاعتقادِ والإيمان، هوَ يُعَدُّ مسلِمًا مؤمنًا لكنّه مُذنِبٌ، إذ الإيمانُ والتّصديق والاعتقادُ ذلك يكونُ في القَلب قال اللهُ تعالى فيمَن أقَرَّ باللّسان دونَ القَلب: {قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}،