مسألة مهمةٌ في أصولِ الاعتِقاد
الله خالق كل شىء
مسألة مهمةٌ من أصولِ الاعتقاد يجهلها كثيرٌ من الناس وقعُوا بِسببِ الغلطِ فيها في الكفرِ وهذه المسألة هي:
أن كل شىءٍ يدخلُ في الوجودِ من الأعيانِ و الأعمالِ من الخيرِ والشرِ يدخُلُ في الوجودِ بعلم الله و مشيئتهِ وتقديره و تخليقه
وأن الله لا يُوصفُ بالظلمِ و لا يُقالُ كيف يُحاسبُ العبادَ ويُعاقِبُهم على الشرِّ الذي حصلَ مِنهم باختيارِهم لكن بمشيئتهِ و تقديرِهِ و خَلْقهِ
و قد أفهمنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الجواب َعلى هذا السؤال حين قال
(( إن الله لو عذب أهل أرضه وسماواته لعذبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهُم ولو رَحِمَهُم كانت رحمتُه خيراً لهم من أعمالِهم و لو أنفقتَ مثلَ أحدٍ ذهباً في سبيل الله ما قِبلَهُ اللهُ منك حتى تؤمِنَ بالقدرِ و تعلمَ أن ما أصابكَ لم يكن ليُخطِئك و ماأخطأكَ لم يكُن ليُصيبكِ ولو متَّ على غير هذا دخلت النار ))
فالجملةُ الأولى و هي قوله عليه الصلاة و السلام إن الله لو عذب أهل أرضه وسمواته لعذبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهُم معناها أن اللهَ لو عذبَ الملائكة و جميع البشر و الجن لم يكن ظالماً لأن الله مالِكُهم و لا يَتَوجهُ إليه أمرٌ ولا نهيٌ فهو الآمرُ المطلقُ و الناهي المطلق ولا يتصورُ مِنهُ الظُلمُ لأن معنى الظلم وضع الشىء في غير موضِعِه أو التصرفُ في ملكِ الغيرِ بما لا يأذنُ فيه فلا يُتصورُ ذلك من الله ,
لأن اللهَ لا يفعلُ فعلاً لا حِكمةَ فيه و لأن كل شىءٍ مِلكُه على الحقيقةِ ولا يجوزُ قياسُ الخَالِقِ على المخلوقِ ويُسمى ذلكَ قياساً شيطانياً
فلا يُقالُ كيف يُعذبُ العصاةَ على المعاصي التي شاءَ حُصُولها مِنهم
قال تعالى (( لا يُسألُ عما يِفْعلُ وهم يُسألون ))
ثم يُقالُ إن الله أرسل الأنبياء فبينوا للناس الخير من الشر والطاعةَ من المعصية وأمروهم بأداءِ الطاعاتِ و اجتنابِ المحرمات ولم يُكلّف العبدُ إلاّ ما في وُسْعِهِ
و لم يُطلَعْ العبادُ على الغيب فعلى العبدِ أن يسعى للصالِح و لا يكونُ مِنْهُ إلا ما قدّرَ اللهُ أن يكونَ لأنه لو كان شىءٌ يحصُلُ بدونِ تقديرِ الله لكان معنى ذلك أنه يحصلُ بتقدير غيره وهذا معناهُ أن اللهَ مغلوبٌ في ملكه و هذا لا يجوز
و لو جاز أن يحصُلَ شىءٌ بدون خلق الله وعلمه و مشيئتِه لكان معنى ذلك أن الله على زعمهم يوصف بضد هذه الصفات أي أنه يوصف بالجهل و أن له شريكاً في الخلق وشريكاً في التدبير وهذا مُحالٌ و ما أدى إلى المحالِ فهو محال
قال الله تعالى (( وخلق كلَّ شىءٍ فقدّرهُ تقديراً )) وقال (( إنا كلّ شىءٍ خلقناهُ بقدر)) وقال تعالى (( وما تشاءون إلا أن يشاء الله )) .
فالمعتزلةُ كفروا بقولهم إن اللهَ لم يشأ حصولَ الشرَّ من العبادِ ،
فهؤلاءِ جعلوا اللهَ مغلوباً في ملكهِ لأن معنى كلامِهم أن الشر حصلَ رغماً عنه وكفروا بقولِهم لم يِخلُقِ اللهُ الشر وبقولهم الله لم يخلق أعمال العبادِ الاختيارية
وقد قيل للإمام مالك ٍ ما تقولُ في نِكاحِ القدرية أي المعتزلةِ فقال قال الله تعالى
(( ولَعبدٌ مؤمنٍ خيرٌ من مشرِكٍ ولو أعجبكم )) فحكم عليهم بالشرك .
وقيل للتابعي طاووسٍ اليماني فلانٌ فقيهٌ عن شخص مُعتِزليّ
فقال إبليس أفقهُ منه لأن إبليسَ قال ربِّ فَبِما أغويتني اعترف أن الغوَاية أي الضلالة بمشيئة الله بخلق الله ،
وقد اجتمعَ الإمامُ أبو إسحاق الأسْفَرايِنييُّ إمامُ أهلِ السنةِ في زمانِ القاضي المُعتزلي بأحدِ رؤوسِ المعتزلةِ في زمانه وصارت بينهما مناظره :
قال عبدُ الجبار المعتزلي : سبحانَ من تنزهَ عن الفحشاء ( يريد أن اللهَ ما خلق الشرَ ) .
فقال الإمامُ أبو إسحاق الأسْفَرايِنييُّ : سُبحانَ من لا يقعُ في ملكهِ إلا ما يشاء
( لا يجوز أن يقع في ملك الله ما لم يشأ ) .
فقال عبد الجبار : أَيُحبُّ ربنا أن يُعصى ؟
فقال الإمامُ أبو إسحاق الأسْفَرايِنييُّ : أيعصى رَبُنَّا قهر ( يعني هل تحصل المعصية بدون مشيئة الله ؟ لا يجوز ) .
فقال عبد الجبار : أرأيت إن حَكمَ علىّ بالردى ( الضلالة) و مَنعنِيَ الهُدى أحسن إلىّ أم أساء ؟
فقال الإمامُ أبو إسحاق الأسْفَرايِنييُّ : إن منعك ما هو لك فقد أساء وإن منعكَ ما هو له فإنه يختص برحمته من يشاء . ( أي لو كان هذا الشىء مِلكك ومنعه يكون أساء لكن أنت لا تملك شيئا فإذاً الله ما أساء) .
فالعبد مختار تحت مشيئة الله.
والله أعلم وأحكم