الإسلام دين عدل واعتدال
لقد اختار الله لأمة الإسلام منهجها وبيّن لها طريقها، وطريقها هو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه، فهي أمة الوسطية، ودينها وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، وإن وسطية الإسلام وسماحته لا تؤخذ من ءاراء الناس وأهوائهم، ولكنها تؤخذ من النصوص الشرعية، وإن دين الإسلام والمتمسكين به بعلم برءاء من الانحراف عن الوسط، والذي ينحرف عن هذه الوسطية بغلو أو جفاء فهو غير ممثل للإسلام.
إن الشريعة الإسلامية تدعو إلى الاعتدال وتحذر من التطرف الذي يعبر عنه بألفاظ منها (الغلو) و(التنطع)، ومن نظر إلى هذه الأدلة تبين له وبوضوح أن الإسلام ينفر من الغلو:
قال الله تعالى:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[ النحل:90]
وروى أحمد في مسنده والنسائي وابن ماجه في سننهما والحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوّ فِي الدِّينِ ﴾.
قوله: ﴿ إياكم والغلو في الدين ﴾ عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، والغلو مجاوزة الحد.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ﴿هلك المتنطعون﴾ رواه مسلم، أي المتعمقون الغالون الـمجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
بداية الدعوة الإسلامية:
قال الله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ}[الأنعام:162]، وقال الله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ}[الرعد: 36]، وقال الله عز وجل:{فَاعْلَمْ أَنَّــهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ}[محمد: 19]. وروى الإمام مالك في موطئه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: ﴿ وأفْضَلُ ما قُلْتُ أنا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ﴾.
وهذا أول ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ليبلغوه، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: ﴿ إِنَّــكَ سَتَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.. ﴾ الحديث. وفي لفظ في صحيح مسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: ﴿ إِنَّــكَ تَقْدمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ الله عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّه، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الله فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، .. ﴾ الحديث.
فأول ما دعا إليه أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم توحيد الله وتنـزيهه عن مشابـهة المخلوقين ولهذا احتج إبراهيم الخليل عليه السلام على قومه بالدليل العقلي القاطع في أن كُلّا من الكواكب والقمر والشمس لا يصلح أن يكون إلها لأن كُلّا منهم يتحرك ويتغير ويأفل (1)، قال الله تعالى: {قَالَ لَا أُحِبُّ الآَفِلِينَ}[الأنعام:76] وأخبرنا الله عنه أنه قال:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّــذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ}[الأنعام:79]. وسمى الله ما استدل به إبراهيم حجة وأثنى عليها قال عز وجل:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}[الأنعام:83].
وأما هو – إبراهيم – عليه السلام كسائر النبيين عصمه الله من الكفر والكبائر وصغائر الخسة قبل النبوة وبعدها (2) فلم يعبد كوكبا ولا قمرا ولا شمسا، لم يعبد إلا الله. قال الله تعالى:{وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}[الأنبياء:51]. وقال سبحانه عن إبراهيم عليه السلام:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ}[آل عمران:67].
وهكذا بدأ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حتى استقرت وترعرت عقيدة الإسلام في ربوع الجزيرة العربية، واستمرت العقيدة النقية الخالصة حتى خرجت الفتوحات تجوب أرض المعمورة لنشرها في ربوعها، فاصطدم الفاتحون بكثير من المعتقدات التي كانت سائدة في تلك الديار البعيدة، وهذا مما أدخل على الناس باسم العقيدة الكثير من الشوائب.
ولعل دخول الإسرائيليات إلى التفاسير القرءانية والأحاديث النبوية هو من أخطر ما واجه العقيدة الإسلامية.
فتأثر بـهذه الأفكار الكاسدة عدة فرق، من أبرزهم كانت المعتزلة، التي ظهرت في بداية القرن الثاني للهجرة الذي كان مشبعا بآثار ما يسمى الثقافات الأجنبية.
ومن الإسرائيليات التي دخلت إلى أفكار الناس باسم عقيدة الإسلام مما امتلأت به التوراة المحرفة، عقيدة: (أن الله جسم وأنه ذو صورة إنسانية، والمشافهة والتكلم جهرا، وطلوع الله في السحاب وكتابة التوراة بيده، والاستقرار وظهور نواجذه من كثر الضحك…)
وفي الوقت ذاته تأثرت أفكار بعض الناس تأثرا قويا ببعض الديانات الفارسية القديمة والتي عرفها المسلمون من خلال الغنوصية. ولقد كانت لبعض تلك العقائد كالمانوية والديصانية وغيرها أثر واضح في ءاراء الكرامية.
ويعتبر عبد الله بن سبأ هو أول من أدخل لفظ (الجسم) في الفلسفة باسم الإسلام وأطلقه على الله تعالى.
وبظهور الإمام المجتهد السني أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (ت241هـ) الذي كان من كبار المحدثين الفقهاء في عصره، وكان من جملة من عانى من ظلم واضطهاد المعتزلة، ولكنه ابتلي بكثير ممن انتسب إليه الذين كانوا يحمّلون ءاراءه ما لا تحتمل ويكذبون عليه.
وهؤلاء المفترون وهم غلاة الحنابلة جمعوا ما تفرق من التجسيم والتشبيه وزادوا عليه ونشروه ودافعوا عنه نتيجة للخصومة مع المعتزلة وغيرهم ممن يبالغ في نفي الصفات.
وعند اشتداد انتشار المبتدعة، ظهر الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله بوسطيته فلم يمل إلى الحشوية الـمجسمة ولا إلى المعتزلة المعطلة، وكان من أجلِّ الأصول التي اعتمد عليها القول بأن الله خالق كل شىء، وأن العبد كاسب لفعله لا خالق له. وأثبت الصفات القديمة ونزه ذات البارئ تعالى عن حلول الحوادث فيه. فالمعتزلة نفت عن الله الصفات، ونفت شمول قدرة الله ومشيئته لكل ما دخل في الوجود من خير وشر، واعتبرت أن العبد خالق لفعله الاختياري، والـمجسمة شبهوا الله تعالى بخلقه، فأثبتوا لله حدًا وجهة وحلول الحوادث في ذاته سبحانه.
وهكذا نجد أن الأشاعرة أخذوا طريقا وسطا بين الحشوية والاعتزال. فالأشاعرة ومعهم الماتريدية نجحوا في أن ينتزعوا فكرة التشبيه من أذهان الكثيرين، كما إنـهم اعتبروا أن النقل (النصوص الشرعية الثابتة) هو الأساس وأن العقل شاهد للنقل أنه صحيح، ووسيلة لإثباته والبرهان على صحته.
ولا ننسى أن الإمام أبا الحسن لم يبتدع مذهبا جديدا، وإنما جمع ما تفرق من كلام علماء أهل السنة، وأيد النقل بالعقل. وكذلك الإمام أبو منصور الماتريدي رحمهما الله تعالى.
فالأشاعرة والماتريدية هم أهل السنة والجماعة، السواد الأعظم من هذه الأمة، (الذين ثبتوا على العقيدة الحقة التي كان عليها النبي وأصحابه)، استمروا في تقرير العقيدة الإسلامية الصافية المستقاة من كتاب الله وسنة نبيه وما قرره علماء السلف وأجمعت عليه الأمة، الخالية من التشبيه والتجسيم ونسبة الحد والجهة والمكان لله ومن التعطيل والحلول والاتحاد والإلحاد ومن تعقيدات الفلاسفة والنحل المردية كالمشبهة والخوارج والجهمية والمعتزلة وأمثالهم.
(1) ذكر ذلك الإمام أبو المظفر الأسفرايني (ت471هـ) في التبصير في الدين ص 97، والإمام أبو الوليد بن رشد (ت520هـ) في المقدمات ص 7، وعلى هذا أهل السنة من مفسرين ومحدثين وفقهاء وغيرهم، وخالف في ذلك طائفة من الخوارج فجوّزوا الكفر على الأنبياء قبل النبوة، ومعهم سيد قطب المصري (ت1387هـ)، فقد نسب للخليل إبراهيم أنه كان على عبادة الكواكب والشمس والقمر، انظر كتابه التصوير الفني في القرءان، ص/133، ومعهم أيضا في هذا بل وزاد عليهم تقي الدين النبهاني (ت1400هـ) الذي جوّز على الأنبياء قبل النبوة ما يجوز على سائر البشر، انظر كتابه الشخصية الإسلامية ج1/القسم الأول/120.
(2) وهذا ما عليه الإمام أبو الحسن الأشعري، انظر الشفا للقاضي عياض، والقواطع لأبي المظفر السمعاني، وبصائر ذوي التمييز للفيروزءابادي، وغيرهم.