بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد
قال تعالى: إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، ثُمَّ تَمَنَّى عَلَى اللهِ.
فالكيس أي العاقلُ المتبصرُ في الأمور الناظرُ في العواقب، مَنْ دَانَ نَفْسَهُ أي حَاسَبَ نَفْسَهُ في الدّنْيَا قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.وعمل لما بعد الموت أي عمل العمل الذي ينفعه في الآخرة أي الطاعات وترك ما يضره فيها أي المحرمات. والعاجز وهو الذي غلبته نفسه فقصر في طاعة الله رب العالمين. من أتبع نفسه هواها أي جعلها تابعة لهواها فلم يكُّفها عن الشهوات ولم يمنعْها عن الوقوع في المحرمات، ثم تـمنى على الله أي يذنب ويتمنى الجنة من غير توبة وإنابة.
يا ابن ءادم كيف بك وقد تصدعت الجبال ونسفت وانشقت السماء وانفطرت وانتثرت الكواكب أي تساقطت وفتحت القبور وبعثرت واشتعلت البحار بالنار وسجرت وانصدعت الأرض وتبدلت وعلمت كل نفس ما قدمت وما أخرت، يا ابن ءادم تذكر أن الله خلقك وأن الله يميتك ثم يبعثك كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ ءاتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ.
إخوة الإيمان:
مواقف القيامة خمسون موقفا كل موقف مقداره ألف سنة من سنوات الدنيا قال تعالى : [فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ]. لكن هذه المدة الطويلة تكون على التقي مقدارَ صلاة مفروضة، ففي صحيح ابن حبان عن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. فقيل له: مَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْم ؟ فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم :” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ – أي الكامل- حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا” ورواه أحمد وأبو يعلى الموصلي.
فمن صبر في الدنيا على أداء الواجبات واجتناب المحرمات يقصر انتظاره في ذلك اليوم. فاحرص أن تكون من أولئك المؤمنين ما بقي لك نَفَسٌ من عمرك، واعمل في أيام قصار لأيام طوال تربح ربـحا لا منتهى لسروره، إن صبرت عن المعاصي في الدنيا لتخلص من عذاب يوم مقداره خمسون ألف سنة يكون ربحك كثيرا وتعبك في الدنيا بالنسبة لما تربح في الآخرة يسيرا.
إخوة الإيمان:
ومن مواقف ذلك اليوم العظيم موقف وزن الأعمال، فقد أخبرنا الله أن أعمال العباد توزن يوم القيامة، يقول الله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ“. والميزان الذي توزن عليه الأعمال ذلك اليوم، له قصبة وكفتان، لكنه كبير الحجم، فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة. فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ “. فمن رجحت حسناته على سيئاته فهو من المفلحين. أفلح وظفر وربح لأنه يدخل الجنة بلا عذاب حيث العيشة المرضية. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ وأما من رجحت سيئاته على حسناته وهو المسلم العاصي، أو لم تكن له حسنات بالمرة وهو الكافر. فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ. أي فمصيره إلى جهنم. وسميت هاوية لأنه يهوي فيها مع بعد قعرها، فأما الكافر فيصل إلى القعر ويخلد فيها، وأما المسلم العاصي الذي شاء الله أن يعذب فيها، فلا يصل إليه ولا يخلد فيها.
إخوة الإيمان:
فما أصعبها من لحظة يقف فيها الواحد منا حيث توضع أعماله على الميزان وهو ينظر وينتظر حكم الله فيه.
فقد روى الترمذي عنْ سيدنا عُمَرَ بنِ الْخَطّابِ رضي الله عنه أنه قَالَ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَتَزَيّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ وَإِنّمَا يَخِفّ الْحَسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ في الدّنْيَا. نعم كما قال تعالى: [يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ]
وَقَالَ سيدنا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: ارْتَحَلَتْ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً وَارْتَحَلَتْ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ”.رواه البخاري
وقد أحسن الواعظ حيث قال:
يــا من يرى مـا في الضمـــير ويســمع أنت العليم بكل مــا يُتــــــــــــــوقّــــــع
يا مـن يُـــرجى للشّــــدائــد كُـــلّــــــــــــها يـــا من إلـــــيه المُشــــتكى والمــفــزعُ
بالـــذُّلّ قــــد وافــيت بــــــابك عــــــالمـــــًا أن التّــــذلُّل عند بـــــابــك ينفـــــــــــــــــــعُ
وجــعلـــــت معتمـــــدي عليــــك تــــــــوكّلا وبســــطتُ كفّـــــي ســـــائِلا أتـــــــضـــرّغُ
فاجــــعـــل لنــا من كـــلّ ضـــيقٍ مخـــــرجًا والطُــــف بنــــا يــامن إليـــــه المـــــــــرجِعُ