شرح حديث: “إنَّ الله حَرَّم علَيْكُم عُقوقَ الأُمَّهات“
الحمدّ لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على رسول الله.
قال الله تعالى:﴿ فأمّا مَن طَغَى وآثَر الحياةَ الدنيا فإنّ الجحيمَ هِيَ المأوَى وأمّا مَن خافَ مَقامَ رَبّه ونَهَى النَّفْسَ عَن الهوَى فإنَّ الجَنَّة هِيَ المأْوَى﴾.
ووَرَدَ في الصحيحين البخاري ومسلم عن المغِيرَةَ بنِ شُعْبةَ رضي الله عنه أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “إنَّ الله حَرَّم علَيْكُم عُقوقَ الأُمَّهات وَوَأْدَ البَناتِ ومَنْعًا وهاتِ، وكَرِهَ لَكُم قِيلَ وقَالَ وكَثْرَةَ السُّؤالِ وإِضاعَةَ المالِ“.
يُبَيِّن لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحديث النبويّ حُكْمَ سِتّةِ أُمورٍ: ثلاثة منها محرّمة وثلاثةٌمكروهة أي لا مَعْصِيَةَ فيها ولكن تَرْكُها خَيْرٌ وأَفْضَلُ.
وَأَوَّلُ الأمور الثلاثة المحرَّمة: عقوقُ الأمهات وهو من كبائر الذنوب وكذلك عقوقُ الآباء ولكن عقوقُ الأمهاتِ أشدُّ ذَنْبًا كما أنَّ بِرَّ الأمهاتِ أعظمُ ثَوابًا مِن بِرِّ الآباء. ومعنَى العُقوق إِيذاؤُهُما أذىً ليس بِـهَيِّنٍ كشَتْمِ الأُمّ وشَتْمِ الأَبِ أو ضَرْبِ الأمِّ أو الأبِ، وكذلك الذي يُهِينُ أُمَّه أو أباهُ أمامَ الناسِ. وعَذابُ العقوق عند الله تعالى شديدٌ حيثُ إنّ عاقَّ الوالدين لا يَدخل الجنّةَ مع الأَوَّلِين. وإذا كان الأبوان كافرَين فالله تعالى أمَرنا بالإِحسانِ إليهِما لكنْ لا يُطِيعُهما في كُفْرِهما ومعاصِيهِما، وهذا معنى قول الله تعالى ﴿وَصَاحِبْهُما في الدُّنيا مَعْرُوفًا﴾. وقد جاءَ صحابيٌّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله مَن أحَقُّ الناسِ بِـحُسْنِ صَحابتي؟ قال: “أُمُّك“. قال: ثُمّ مَن؟ قال: “أمك“. قال: ثُمّ مَن؟ قال: “أمك“. قال: ثُمّ مَن. قال: “أبوك“. مُتَّفَقٌ علَيه.
وأما الأمرُ الثاني فهو: وَأْدُ البَناتِ في التُرابِ وهُنَّ حَيَّات وهذا الشىءُ كانَ في الجاهلية، وأَوَّلُ مَن فَعَلَهُ قَيسُ بنُ عاصِمٍ. وقَتْلُ النفسِ التي حَرَّم الله إلا بالحقِّ أشَدُّ الذُنوب بعدَ الكُفر.
وأما الأمر الثالث فهو قوله: “ومَنْعًا وَهاتِ” أي مَنْعُ الواجباتِ مِثل الزكاةِ، فإذا إنسانٌ مَنَعَها فهو عاصٍ مَعصيةً كَبيرةً، كذلك إذا كان لِإنسانٍ دَيْنٌ علَى آخَرَ فمَنَعَهُ مالَه فهُو عاصِ معصيةً كبيرةً إن كانَ قادِرًا علَى أن يَدفع الدَّيْن لِصاحِبِه، كذلك الإنسانُ الذي له أَبَوانِ مُـحْتاجانِ فمَنَعَهُما النَّفَقَةَ فقَد عصَى الله، وكذلك الزوجةُ إذا كانَ الزوجُ قادِرًا على نَفَقَتِها فمَنعَهَا النَفَقَة، وبالجُمْلَة فإنَّ تَرْكَ الإنفاق الواجِب بلا عُذرٍ كَبِيرةٌ، ولو لَـمْ يَكُن عِنْدَه غيرُ هذا الذَّنبِ لَكَفاهُ. وأَمّا “هات” فمَعناه أنه يَـحْرُم أنْ يَطْلُبَ الشخصُ ما لا يَـحِلُّ له كالذي يَطْلُب مِن مالِ الزكاةِ وليس هو من المستَحِقِّينَ المذكورِينَ في القرءان الكريم وهم الأصنافُ الثَمانيةُ، وكالذي يَطْلُب مِن مالِ الوَقْفِ وليس هو مِن أَهْلِه.
وأما الأمور الثلاثة المكروهة فأَوَّلُها: “قِيلَ وقَالَ” والمقصودُ الكلامُ الذي لا فائِدَةَ فيه ولكنَّه لا يَصِلُ إلى حَدِّ الحَرامِ، فأمّا إنْ وَصَلَ (إلى حَدِّ الحَرامِ) فإنَّهُ يَدْخُل في الكلامِ الـمُحَرَّمِ كالغِيْبَةِ. والأمر الثاني هو “كَثْرَة السُّؤالِ” ومعنَاهُ أنَّ الإنسان لا ينبغي له أن يَسألَ عن مَسائِلَ لا حاجَةَ له فيها فَهذا شَىءٌ مَكْروهٌ عِندَ الله، وأما ما يُـحتاج إليه في الدِّينِ فالسؤال عنه واجِبٌ وهذا يَدْخُل تحتَ قوله صلى الله عليه وسلم: “طَلَبُ العِلم فريضةٌ على كلّ مسلم” رواه البيهقي. فلا يَنبغي للمُسلِم أن يُـحْجِمَ عن السؤال في أمور الدِّين الضروريةِ كأحكامِ الصلاةِ والطهارةِ بِسَبَبِ الحَياءِ أو غَيرِه، بل علَيه أن يسأل عمّا يَـجْهَلُه مِن هذه الأمور حتى يُؤدِيَ العبادَةَ كما أَمَرَ اللهُ.
وأما الأمرُ الثالث فهو “إِضاعَة المالِ” أي صَرْفُه في غيرِ أَوْجُهِ البِرِّ، فإنْ صَرَفَهُ لزيادَةِ التَنَعُّمِ بالحلال فلا مَعصيةَ عليه ولكنَّ هذا أي الإكثارَ مِن التَنَعُّمِ ليس مِن شِيَمِ الصالِحينَ وهو أمْرٌ مَكْرُوهٌ. وأمّا مَن صَرَفَهُ في غير طاعَةِ الله بل في مَعْصِيَتِه كالذي يَشتري به الخُمُورَ أو يَصْرِفُه في المَيْسِر فهُوَ مِن جُملة المحرَّمات التي يَسْتَحِقُّ فاعِلُها العُقوبةَ يومَ القِيامَةِ.
والحمد لله ربّ العالَمِين وصلّى الله وسَلَّم علَى رسوله الأمِين.