10 رمضان المبارك لسنة 1434 للهجرة الشريفة، 19 يوليو/تموز 2013 بالتقويم الرومي
قال العلامة حجة الإسلام أبو جعفر الوراق الطحاوي (توفي سنة 321 للهجرة) بمصر رحمه الله:
وقد علمَ اللهُ تعالى فيما لم يزل (أي قبل خلق الخلائق، لأن علم الله أزلي كسائر صفاته كلها أزلية) عددَ من يدخلُ الجنةَ، وعددَ من يدخلُ النارَ جملةً واحدةً، فلا يُزادُ في ذلك العدد ولا يُنقَصُ منه، وكذلك أفعالهُم فيما علمَ منهم أن يفعلوه، وكلٌّ ميسّـرٌ لما خُلقَ له.
والأعمالُ بالخواتيم، والسعيدُ من سَعِدَ بقضاء الله، والشقيُّ من شقِي بقضاء الله.
وأصلُ القدَر سـرُّ الله تعالى في خلقه، لم يَطّلع على ذلك ملَكٌ مقرّبٌ ولا نبيّ مُرسلٌ، والتعمقُ والنظرُ في ذلك ذريعةُ الخِذلان وسُلّمُ الحِرمان ودرجةُ الطُّغيان، فالحذرَ كلّ الحذرِ من ذلك نظرًا وفكرًا وَوَسوسةً، فإن اللهَ تعالى طوَى علمَ القدَر عن أنامِه، ونهاهُم عن مَرامِه، كما قال الله تعالى في كتابه: “لا يُسألُ عما يفعلُ وهم يُسألون” (الأنبياء، 23)، فمن سأل: لِمَ فعلَ؟، فقد ردَّ حكمَ الكتابِ، ومن ردَّ حكمَ الكتابِ كان من الكافرين.
الشرح: في كلام الطحاوي رحمه الله ان من زعم معرفة سر القدر فقد ضل ضلالاً بعيداً، وأن من ادعى أن أحداً من الخلق يعلم كلّ الغيب فقد كفر. الأنبياء والملائكة وبعض الأولياء الأكابر يطلعهم الله على قليل جداً من الغيب لكرامتهم على الله.
روى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء قال سئل مالك بن أنس عن تزويج القدري أي المعتزلي فقرأ قول اهلِ تعالى “ولعبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبَكم” (البقرة، 221)
والمُرادُ بالقَدَر التَّقْدير. قال الإمامُ الحَسَنُ البِصْرِيُّ رضي الله عنه وغيرُه منْ أئمَّة السَّلَف: “مَن كذَّبَ بالقَدَر فقَد كفَر”. المعنى أنّ الذي لا يعتَقدُ جَزمًا بلا شكٍّ أن مَا يَجري على العباد مِن أعمالٍ ظاهِرةٍ وباطِنَةٍ بتقدير الله، مَن لم يعتقد هذا فاعتقَدَ خِلافَه بأن اعتقدَ أنّ العبدَ هو الذي يُحْدِثُ ويَخلُق أعمالَهُ فقَد كفَر. العبدُ لا يُحْدِثُ منَ العَدَم إلى الوجود. العبد يُوَجِّه إرادَتَه إلى نحوِ الشّيء الذي يَميْلُ إليه، نحوَ تلكَ الحركةِ أو السّكون فيَخلُق اللهُ تعالى تلكَ الحركةَ أو السّكونَ. يَخلقُها اللهُ تعالى في العبدِ. ليسَ كما تقولُ المعتزلة. قالوا إنّ اللهَ تعالى كانَ قَادرًا على أن يخلُقَ حَركاتِ العبدِ وسكونَه قبلَ أن يُعطِيَه القُدْرةَ، فلَمّا أعطاهُ القُدْرَة صارَ عَاجزًا. فبَعدَ قَولِهم هذا، المؤمنُ لا يَسَعُه إلاّ تكفيرُهم كما نصّ الإمام مالك رضي اهلل عنه.
فمعنى القَدَر التَّقديرُ ومعنى التَّقدير التّدبيرُ، قال ذلك الزَّجّاج من اللُّغَويّين.
وسُئِلَ الشافعي رضي الله عنه عن القَدَر فقالَ أبياتًا هي:
ما شِئْتَ كان وإن لم أشأ وما شِئتُ إن لم تَشَأ لم يكُن
خَلَقْتَ العِبَادَ على مَا عَلِمْتَ ففِي العِلْم يَجْري الفَتى والمُسِنّ
على ذا مَنَنتَ وهذا خذَلْتَ وهذا أعَنْتَ وذا لم تُعِن
فمِنْهُم شَقِيٌّ ومِنْهُم سَعِيْدٌ ومنهم قَبِيْحٌ ومنهُم حَسَن
هذا كانَ جواب الشَّافعيّ لتَفسِير القدَر. فحاصِلُ هذا الكلام أن القَدَرَ هو مشيئةُ الله تعالى التّابِعةِ لعِلْمِه أي الموافقةِ لعِلمِه لأنّ المشيئةَ لا تُخالِفُ العِلم.
فقولِ الشافعي ما شِئتَ كانَ وإن لم أشأ أفهَمَ أنّ ما شاءَ اللهُ تعالى دخولَه في الوجود كانَ، أي وُجِدَ، لا بُدَّ مِن ذلك، لا أَحَدَ يَمنَعُ نفَاذَ هذه المشيئةِ، لا يمنَعُ نفاذَ هذه المشيئة دَعوةُ داعٍ ولا صَدَقَةُ متَصدِّق ولا برُّ الوالدَين ولا شيءٌ منَ الحسَنات. إنّما نَفْع الدّعاءِ والصّدقة وبرِّ الوالِدَين وصلةِ الرَّحِم الثواب، وأنه إن كانَ سَبَقَ القَدَرُ في أنّ هذا الإنسانَ يَفعَلُ هذه الدَّعوةَ يَدعُو أو يتصَدّق أو يَبَرُّ والدَيه أو يَصِلُ رحِمَه فيُعطَى ما طلبَه أو يُدْفَعُ عنه ما طلَب أن لا يُصيبَه، فهناك صار دُعَاؤُهُ منَ القَدَر ونَيْلُه لطَلبِه منَ القَدَر، وكذلكَ انصرافُ البلاءِ الذي طلَب منَ الله أن لا يُصيبَه منَ القَدَر. كلٌّ منَ القَدَر. مشيئة اهَه أزليّةٌ شاملَة لكلِّ ما سيَحدُث في الدّنيا وفي الآخِرة إلى ما لا نهايةَ له، تلك المشيئةُ الأزليّةُ الأبديةُ شاملةٌ لكُلّ ما سيَحدُث في هذه الحياةِ وفي الحياةِ الثّانيَة إلى ما لا نهايةَ لهُ هذا الذي ينبَغي أن يُعْتَقَد.
دعاكم أنشروه